بعيداً عن كل المزايدات الرخيصة والأقل من الرخيصة التي يشهدها لبنان حالياً، بما في ذلك التظاهرات المفتعلة التي توجهها فئات مرتبطة بالخارج وتعمل لحسابه، لا بدّ في النهاية من التساؤل لماذا الهرب من الموضوع الأساسي الذي يتلخص بالآتي: هل يستطيع النظام السوري التعاون مع التحقيق الدولي في أغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري أم لا؟
يصعب على هذا النظام التعاون لأنه متورط في الجريمة الى ما فوق أذنيه، ولذلك يبحث عن مخرج يعفيه من التعاون خصوصاً أن المطلوب في المرحلة المقبلة عقد لقاء بين أعضاء في لجنة التحقيق الدولية ذات المهمة الواضحة التي حددها لها مجلس الأمن من جهة والرئيس بشّار الأسد من جهة أخرى.
كلما مرّ يوم يكتشف النظام السوري، الذي عكس أغتيال رفيق الحريري الأزمة التي يمر بها منذ فترة طويلة، أن المخرج الوحيد بالنسبة اليه يكمن في أفتعال مشاكل في لبنان تمهيداً لتفجير الوضع فيه والقول للعالم أن هذه نتيجة أستمرار الضغوط على دمشق من أجل التعاون مع التحقيق الدولي. أنها لعبة أقل ما يمكن أن توصف به أنها مكشوفة، وهي في الوقت ذاته لعبة تنتمي الى عصر آخر كان يستطيع فيه النظام السوري أن يهدّد ويبتزّ بغية الوصول الى صفقة يرضخ فيها العرب والعالم، بما فيه الولايات المتحدة، لمطالبه في لبنان ولرغبته في أستخدام البلد quot;ساحةquot; لتصفية حساباته مع الآخرين... من عرب وغير عرب.

بعد سلسلة الأغتيالات التي شملت رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما والتي ذهب ضحيتها عرب شرفاء أوّلا هم سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني، وبعد محاولات ألأغتيال التي تعرض لها مروان حمادة والياس المر ومي شدياق، وبعد سلسلة التفجيرات التي أستهدفت مناطق معينة ذات أكثرية مسيحية، جاء الآن دور تفجير ألغام أخرى. يبدأ ذلك بتفجير الألغام المزروعة داخل الحكومة أو خارجها وذلك بغية تغطية الدور الذي لعبه النظام السوري في أغتيال رفيق الحريري ورفاقه وأرتكاب الجرائم الأخرى التي حصلت في مرحلة ما بعد فرض التمديد للرئيس أميل لحود.

المهم تغطية الجريمة والدور السوري فيها حتى لو تطلب الأمر أرتكاب جرائم أخرى في حق لبنان واللبنانيين من نوع تلك التظاهرة التي نظمها يتامى النظام الأمني السوري- اللبناني قبل أيام في بيروت في مناسبة وجود مسؤول أميركي في العاصمة اللبنانية أو تلك التي سُيّرت في أتجاه السفارة الأميركية. ربما أراد المتظاهرون ومن يقف وراءهم على رأسهم quot;حزب اللهquot; الأحتجاج على عدم قيام هذا المسؤول الأميركي بزيارة لدمشق بغية عقد صفقة سورية-أميركية على حساب لبنان على غرار ما كان يجري في الماضي القريب. لم يدرك من هم وراء التظاهرتين أن الدور الذي لعبه النظام السوري في الأغتيالات التي راح ضحيتها أفضل اللبنانيين وأكثرهم التصاقاً بالعروبة وبكل ما هو عربي بات دوراً معروفاً. أنه دور أكده نائب الرئيس السوري الى ما قبل ستة أشهر السيد عبدالحليم خدّام الذي لا يمكن لعاقل الشك في أمتلاكه معلومات دقيقة وصحيحة في آن في شأن ما يدور في الداخل السوري وطريقة أتخاذ القرار في عهد حافظ الأسد وبعد خلافة بشّار الأسد لوالده في العام 2000 .

ما يفعله quot;حزب اللهquot; حليف النظام السوري في لبنان والذي يمثل في واقع الأمر أداة أيرانية، تابعة مباشرة لأجهزة النظام في طهران، يندرج في أطار العمل على تأزيم الوضع في لبنان بغية الوصول الى هدف وحيد يتمثل في نقل الأزمة من دمشق الى بيروت. هذا الحزب الذي يتذرع بالوصاية الأميركية على القرار اللبناني لا يقول لنا لماذا سكت دائماً عن الدور الأيراني في دعم الحرب الأميركية على العراق؟ هل مشاركة أيران في هذه الحرب عبر التواطؤ مع أميركا يبرر السكوت عن الأحتلال؟ هل أن ما يسميه المسؤولون في الحزب quot;الأبليس ألأميركيquot; في لبنان صار أبليساً لطيفاً في العراق لأنه خلّص العراقيين من النظام العائلي- البعثي الذي هو في الواقع نظام المقابر الجماعية، فيما أن هذا الأبليس نفسه صار مطلوباً أن يُقاوم لمجرد أنه دعم في مجلس الأمن قرارات تدعو الى كشف الحقيقة في أغتيال رفيق الحريري ورفاقه والشرفاء العرب الآخرين في لبنان؟
يمكن لأي عربي ان تكون له مآخذ كثيرة محقّة على السياسة الأميركية، الاّ أن المستغرب السكوت عن هذه السياسة حيث يخدم quot;ابليسquot; مصالح النظام الأيراني والتوجه المذهبي للنظام. أما التركيز على لبنان فربّما يعود الى أن المأخذ الحقيقي لquot;حزب اللهquot; على واشنطن يتمثّل في عدم رغبتها في دعم النظام السوري في سعيه الى تغطية الجريمة. منذ متى صارت تغطية الجرائم سياسة ظاهرة quot;وطنيةquot; يُخون من يقف في وجهها؟

في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة ستزداد حملة quot;حزب اللهquot; وغيره من الهاربين من الحقيقة والساعين الى أيجاد مخرج للنظام السوري من أزمته على لبنان واللبنانيين. وما التظاهرة التي جرت وسط بيروت لدى وصول ديفيد والش مساعد وزيرة الخارجية الأميركية الى السراي الكبير قبل أيام سوى رسالة أخرى الى كل لبناني يصر على الحقيقة ومعرفة من أرتكب كل هذه الجرائم في حق لبنان واللبنانيين بدءاً بالتمديد لرئيس الجمهورية. فحوى هذه الرسالة أن لبنان لن تقوم له قيامة في حال أصرّت حكومته على الوصول الى الحقيقة عن طريق التحقيق الدولي... وأن على والش وغير والش التوجه الى دمشق وليس الى بيروت ليصير الأبليس الأميركي أبليساً لطيفاً وكي تحصل الأدارة الأميركية على شهادة في الوطنية بغض النظر عمّا ترتكبه في العراق وفلسطين!

في هذا المجال ، مجال السعي الى أخفاء الحقيقة، يفترض في quot;حزب اللهquot; وغيره من الخائفين على النظام السوري الذين يتباكون على المتظاهرين الذين سعوا الى التخريب ولا شيء غير التخريب في وسط بيروت، الاّ يغيب عن بالهم أن مشكلة النظام السوري ليست مع لبنان واللبنانيين فحسب، أنها أيضاً مع المجتمع الدولي، أنها مع المجتمع الدولي أوّلا... والدور الوحيد الذي تلعبه الحكومة بدعم من اللبنانيين والعرب الشرفاء الذين لا يخدمون أسرائيل من حيث يدرون أو لا يدرون، وألأرجح أنهم يدرون، يتمثل في تسهيل الوصول الى الحقيقة لا أكثر ولا أقلّ. والباقي تفاصيل مثل كل الأسئلة الأخرى التي تتجاهل السؤال الأساسي الذي يختصر الى حدّ كبير أزمة النظام السوري والذي لا بد من طرحه مجدداً: هل في أستطاعة النظام السوري التعاون مع التحقيق الدولي؟
ذلك هو السؤال الذي يتوجب على النظام طرحه على نفسه بدل الأعتقاد أن تفجير الوضع في لبنان عبرquot;حزب اللهquot; وغيره يمكن أن ينقذه من الورطة التي أوقع نفسه فيها. كل ما في الأمر أن هذا النظام قام بحسابات خاطئة عندما تورط في أغتيال رفيق الحريري. كل ما في الأمر أن لا شيء يمكن أن يخرجه من ورطته سوى التعاون مع التحقيق الدولي. هل صعب على بريء الأقدام على مثل هذه الخطوة؟ أم أن التعاون بمثابة طلب المستحيل من النظام السوري؟