ولكن الكلاعي في كتابه (إحكام صنعة الكلام) يقول:quot; من صنّف كتاباً فقد استُهدِف، فإن أحسن فقد استعطف، وإن أساء فقد استقذفquot;، ويقول الشريشي:quot; من صنع كتاباً فقد استشرف للمدح أو الذم، فإن أحسن فقد استُهدِف للحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم بكل لسانquot;.
لا مناص من إيراد هذين النصين حين ينهض القلم لكتابة أسطر عن رواية (بنات الرياض) لصاحبتها رجاء الصانع، لأن الهرج عمّ، والمرج كثُر، وهذه طبيعة البشر في استقبال الأشياء التي غالباً ما تكون عكس الاتجاه السائد. وليس في نية القلم هنا تناول الرواية بدراسة تأتي بما لم تستطعه الأوائل، ولا في اليقين أيضاً رصد الظواهر التي تنبثق من هذا العمل، لأن خطوات كتلك هي من نصيب أهلها والراسخين فيها.
غير أن (صاحب هذه السطور) بوصفه قارئاً لا بوصفه ناقداً يمكنه أن يدرك الكثير من خطوط الرواية ودوائر عرضها، وبمكن أن يخرج بانطباعات جمّة من أهمها أن الكاتبة كان بمقدرتها أن تخرج عملها بحبكة أجمل، وبسرد أمثل، من خلال مراجعة بعض المعاني والكلمات التي تمّ إيرادها في الرواية، حيث منحتها الكاتبة معانٍ وصوراً غير تلك التي استقرت في المتعارف الجمعي.
ويُضاف إلى ذلك أن الرواية انحصرت في خط من خطوط المجتمع، وهذ الخط لا يمثّل إلا الجزء النحيل من سمن ودسامة المجتمع، كما لا يفوت على القارئ أن الرواية تدخلت فيها أقلام التصحيح، وأصابع التجميل والتنقيح بشكل يجعل التباين بين الأفكار والصور واللغة أيضاً واضحاً أشد التوضيح. كما أن الرواية بوصفها عملاً كان يُقرأُ أسبوعياً من خلال إرساله لإيميلات البشر، قد تعرّض للمد والجزر الإبداعي سلباً وإيجاباً، وهذه ضريبة الاستشارة، وعرض العمل قبل الطباعة.
من كل ذلك يمكن للقارئ أن يدرك أن الكاتبة قد أنجزت عملها وهي مستخدمة فقط quot;الجزء الأيمن من عقلهاquot;، ومن يرصد الرواية بشكل فاحص سيجد ما وجد القلم هنا، ومع أن في الجعبة المزيد من سهام الملاحظة وسيوف المعارضة، إلا أن القلم آثر أن يتوقف عن هذا لأن الروائية قالت عن عملها في نهايته: quot; إنها مجرد تأريخ لجنون فتاة في بداية العشرينات، ولن أقبل إخضاعها لقيود العمل الروائي الرزين، أو إلباسها ثوباً يبديها أكبر مما هي عليه، أريد أن أنشرها كما هي بلا تنقيح، سمك لبن تمر هندي، إنها طفلي الذي يعزّ عليّ فطامه بعد سنة من الرضاعة، فأرجوكم كونوا لطفاء مع هذا الصغيرquot;. حسناً ياأمة الله! هانحن لطفاء، فعملك رغم كل ما قيل ويُقال وسيُقال عمل مثير يحفل بالمداخل ويعج بالمخارج، فهو قادم من بلاد الصمت ليحرك الراكد، ويهز الجامد، ويشعل الخامد.
إن كل ما ذكر في سابق المقال ليس هدف القلم هنا، ولكن الهدف يتمحور حول شريحة ما استقبلوا هذا العمل بسوء طوية، وقصد أسود، فساءهم نجاحه، وأزعجهم تداوله، لذلك حاولوا تقزيمه، ونبذه، وتجاهله والانتقاص من قدرات كاتبته.
وحتى لا يكون الكلام في صحراء الظنون فإن الفئة المقصودة هنا هم أولئك المستقبلين الذي تسيطر عليهم (الفئوية) وتهيمن عليهم ( الجهوية) وتستحوذ عليهم فكرة (الإقليمية)، لذا حاولوا وحاولوا ولكن يأبى النجاح إلا أن يتمّ نوره ولو كره الحاسدون.
والعمل من بدايته مرفوضٌ من قبل هذه الفئة لسبب يتعلق بالعنوان قبل غيره من الأسباب، والعنوان بوصفه العتبة الأولى quot;لدخولquot; الإنتاج الأدبي يبعث لدى هذه الفئة قدراً كبيراً من الحساسية الموجعة، الأمر الذي يجعل الكامن يتحرك، والمقطوع يتشبك، وأشكال الغيرة (تترى)!
والعنوان هنا باعث على الوجع بوصفه يحمل دلالاته، لذا يقول ناقدنا الروعة معجب العدواني quot; يميز العنوان/ المكان بخصوصيتة وشكله المتفرّد، إذ يشكِّل مرآة للنص تبدو لنا بوجهين: داخلي/ حارجي وذلك من خلال تلك الإيحاءات الدلالية والنفسية المكثفة، فحين تزداد درجة الوضوح عند الإحالة إلى الواقعي فإنه يحمل درجة إشكاليته ونجاحه في المباشرة والمجانية. أما الوجه الآخر من المرآة فلا يسمح بالرؤية المباشرة للمتلقي، بل يضفي مزيداً من الضبابية التي لاتنقشع إلا بعد قراءة النص كاملاً، وتعلق ذلك بتأويل القاؤئ للنص، إلى جانب تلك الملامح النفسية التي تظهر للمكان عبر حضوره النصي والإنتاجيquot;. فالعنوان من جهة والنجاح الذي لقيه العمل قد أوجد الاستهداف البغيض النابع من الحسد المولّد للغيبة كما يقول الناقد الشريشي.
ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه الفئة الكارهة للنجاح تمارس كتابة الرواية وتحاول أن تقدم أحيانا إضاءات لدعم بعض الروائيات اللواتي يحركن طموحاتهم الشخصية، ويرتبطن بهم بمصالح دنيوية، بعيدة كل البعد عن العمل الإبداعي. لذلك فإني أتمنى أن يتوقف هؤلاء عن خزعبلاتهم الإقليمية الضيقة التي لا توجد إلا في رؤوسهم، وليشرب هؤلاء من ماء البحر، وليموتوا بغيظهم، فإن لم يكن بحر ولا غيظ، فليتخيروا لرؤوسهم ما يلائمها من الجدران، وخاصة أن القلم يجزم هنا أن الروائية قد بدأت تعد العُدّة، وتخط الخطوط، وتدوّر الدوائر لعمل روائي قادم، بعد أن فتح شهيتها هذا العمل.

[email protected]