بعد عقود طويلة من الانكفاء على الذات والاختفاء تحت (قبة الكنيسة) حيناً وتحت (عباءة البعث) الحاكم أحياناً أخرى، قررت بعض (التنظيمات الآشورية) السورية، الانفتاح على المجتمع السياسي السوري والمشاركة في الحراك الديمقراطي الخجول الذي تشهده الساحة السورية والسعي للانضمام الى قوى المعارضة أملاً بتحقيق بعض المكاسب الشخصية والحزبية وبعض الحقوق القومية لآشوريي سوريا، إذا ما تحقق يوماً (التغيير الديمقراطي) المنشود ووضع دستور جديد للبلاد، يقر بحقوق المواطنة ويقيم الدولة المدنية، ينهي عهود طويلة من الاستبداد البعثي لسوريا، ويضع حداً لسياسية التعريب الممارسة بحق الشعوب والثقافات السورية الغير عربية، دستور يقر ويعترف بالتعددية القومية والسياسية واللغوية التي يتصف بها المجتمع السوري.هذا الانفتاح السياسي الآشوري المتأخر جداً أثار جملة تساؤلات في الأوساط السورية عامة(سلطة ومعارضة).إذ يشكك، المهتمون بالشأن الآشوري والمقربون من التنظيمات الآشورية، بجدية هذه التنظيمات في تعزيز علاقتها مع قوى المعارضة الوطنية وبقدرتها على تحمل ما يترتب على هذه الخطوة السياسية من مسؤوليات وأعباء نضالية، فهي تنظيمات حديثة العهد في المعترك السياسي وتحمل أرثاً تاريخياً ثقيلاً من الهواجس والمخاوف من الآخر القوي المختلف عنها في الثقافة والرؤى والطموح.ولم يعد يخفى على أحد ما تعانيه التنظيمات الآشورية من ضعف وانحسار كبيرين في بنيتها التنظيمية وقاعدتها الشعبية ومن حالة عدم الانسجام الآيديولوجي والفكري بين أعضائها، باعتبارها خليطاً قومياً غير متجانس في أساسه وبنيانه، أنها تنظيمات مأزومة من الداخل، تعيش تحت خط الفقر السياسي والثقافي.بالطبع أزمة (التنظيمات الآشورية) السورية ترتبط بشكل مباشر بأزمة (مختلف فصائل الحركة الآشورية) في عموم بلاد الرافدين، الموطن التاريخي للآشوريين، كما أنها تعكس واقعاً آشوريا (مأزوماً).أزمته هي، بجزء كبير منها، نتاج البيئة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحيط به وتحكمه، وبالجزء الآخر منها، هي نتاجبيئة (آشورية مسيحية)، محافظة نسبياً، يصعب الفصل فيها بين ما هو قومي عن ما هو ديني، تشكل جزء من (البيئة المسيحية) المشرقية عامة التي تتميز (ببسيكولوجيا) اجتماعية تاريخية مسالمة ومهادنة، متنافرة مع (محيطها الإسلامي) الذي يتسم بالعنف والخشونة، إنها بيئة مسيحية مهزومةKتخشى التعاطي في السياسة، جعلت الموقف المسيحي العام، الذي تعبر عنه عادة (المؤسسة الكنسية)، في موقع المناصر للسلطات القائمة، بغض النظر عن طبيعة هذه السلطات و الأنظمة الحاكمة وآليات حكمها.يستند هذه (الموقف المسيحي) التقليدي الى قناعة قديمة راسخة لدى (طبقة الإكليروس)- الحريصة على حقوق الله والكنيسة أكثر من حقوق البشر- ترى في استمرار و استقرار الأنظمة القائمة ضمانة لـ(السلم الأهلي) وبالتالي مصدراًلأمن واستقرار ما تبقى من المسيحيين في الشرق الإسلامي.بالطبع انخراط بعض (النخب المسيحية) في صفوف المعارضات، في هذه الدولة أو تلك، لا يغير من الحالة شيئاً و لا أظنه أثر على الرأي أو المزاج العام للشارع الآشوري و المسيحي بشكل عام الغير مهتم كثيراً بالشأن السياسي وبالتالي هو غير معني كثيراً بمن يحكم طالما دساتير الدول الإسلامية حرمته من هذا الحق. بلا ريب بقيت، أسيرة (عقدة الخوف) من السياسة من جهة وأسيرة هذه (البيئة المسيحية) المهزومة التي نشأت وترعرعت فيها من جهة أخرى، معظم التنظيمات والمجموعات القومية(الآشورية/السريانية/الكلدانية)، في مقدمتها(المنظمة الآثورية الديمقراطية) في سوريا، التي هي موضوع هذه الدراسة باعتبارها أقدم التنظيمات الآشورية، ومن بقايا حقبة الأحزاب والتنظيمات ذات الآيديولوجيات الشمولية التي بدأت تختفي وتزول مع تصاعد ونمو الفكر الليبرالي والتيارات الديمقراطية في العالم، وما تبقى منها دخل مرحلة (الشيخوخة السياسية والفكرية)، (البعث والشيوعي) في سوريا نموذجاً.كان المنتظر والمرتجى من المنظمة الآثورية أن تكون حاملة لآمال وتطلعات آشوريي سوريا، في مرحلة تشهد المنطقة والعالم انفتاحاً على الأقليات القومية والدينية واهتماماً متزايداً بحقوق الشعوب المضطهدة، لكن يبدو أن كل الآمال خابت بها، بعد أن ابتعدت عن الأهداف القومية التي وجدت من أجلها، وتحولت الى مطية بيد مجموعة من المنتفعين والمسترزقين لخدمة أهداف وتحقيق رغبات خاصة وضيقة، لذلك هي اليوم في (مأزق سياسي) يصعب عليها الخروج منه مع استمرار السياسات الخاطئة للقيادات الآثورية وانعدام روح المسؤولية والتضحية لديها وحلول (الانهزامية) بدلاً عنها.وهذه ظاهرة مرضية متجذرة ومتأصلة في المنظمة الآثورية، بزرت بـ(وجهها القبيح) إثناء التوقيفات والاعتقالات القصيرة التي جرت لبعض قياداتها في فترات سابقة، التي أسقطت الكثير من الأقنعة و كشفت عن هشاشة المنظمة وضحالة فكرها السياسي.فبعد مضي نحو ثلاثة أشهر على اعتقال أربعة من الآثوريين من قبل سلطات الأمن السورية، التزمت قيادة المنظمة (الصمت السياسي) التام، كمن ارتكب (جريمة) شنيعة يريد طمسها وإخفائها عن الناس، وبدلاً من أن تتحرك سياسياً وإدانة الاعتقالات والتوجه الى قوى المعارضة الوطنية وطرح (القضية الآشورية) على الرأي العام لكسب تأييدها ودعمها السياسي، تصرفت (قيادة المنظمة)، بعقلية طائفية، تتنافى وتتعارض كلياً مع منطق وقواعد العمل السياسي الوطني السليم، فقد اتجهت نحو (الكنيسة والبطريرك) و بعض (الشخصيات المسيحية) المتنفذة في السلطة والتودد لهم من أجل الإفراج عن رفاقهم بأي ثمن.وإثناء توقيف كامل القيادة والتحقيق معها في مرحلة لاحقة وصلت المساومة الى درجة (الانبطاح السياسي)، إذ اقترحت على الأمن السوري حل (المنظمة الآثورية) بشكل نهائي مقابل الإفراج عنهم، لكن السلطات السورية رفضت هذا المقترح الآثوري وفضلت أن تبقى المنظمة الآثورية تحت (الوصاية الأمنية)، بالطبع ليس حرصاً منها على المنظمة، وإنما لاحتواء الشارع الآشوري، وخوفها من أن حل المنظمة يترك فراغاً في الساحة الآشورية قد يدفع لظهور تنظيمات آشورية جديدة.بعد تلك التوقيفات والاعتقالات القصيرة كرست قيادة المنظمة نهجها الانهزامي، حيث طرحت شعار (تحسين العلاقة مع السلطة)، وكأن المنظمة الآثورية هي المذنبة والمعتدية على السلطة و هي مسئولة عن سوء العلاقة معها، وبدأت توصف سوريا:بـ (سويسرا الشرق)، في مرحلة كان قمع النظام وعسفه على أشده، دون أن تحترم مشاعر ألوف الوطنيين السوريين الذين كانوا يقبعون في سجون النظام آنذاك، وسارعت بالتصدي للمعارضين لنهج النظام السوري ولكل آثوري تربطه علاقة مع قوى المعارضة(العربية والكردية)، حيث كانت ترى فيهم عبئاً سياسياً ثقيلاً عليها.ووصل مستوى التخاذل لدى (القيادة الآثورية المرتهنة) الى درجة اتهمت (الهيئة المكلفة- القيادة المؤقتة)- التي بادرت الى تحمل المسؤوليات الحزبية والسياسية في أحرج وأصعب مرحلة مرت بها المنظمة الآثورية- اتهمتها بالارتباط بالمعارضة وتبرأت من (البيان السياسي) الذي اصدرته والذي أدانت فيه ممارسات السلطة وطالبت بالإفراج الفوري عن الآثوريين وعن جميع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في سوريا.جدير بالذكر، عندما تم توقيف أحد كوادر المنظمة لبضعة أيام في فترة لاحقة من قبل أحد الفروع الأمنية بالقامشلي وتعرضه لضرب وتعذيب شديدين روجت قيادة المنظمة بأن سبب توقيفه هو بتهمة العلاقة مع المعارضة وليس كونه عضواً في المنظمة الآثورية، واليوم يهدد كل آثوري بالتخلي عنه في حال اعتقل بسبب كتاباته ومواقفه السليبة من النظام السوري، وهي مازالت تخون وتعادي الآثوريين الذين اختلفت معهم وخاصمتهم في السابق على خلفية علاقاتهم القديمة مع المعارضة الوطنية وتتهم كل من يفضح ممارساتها وديماغوجيتها التي أوصلت المنظمة الى ما هي عليه من انحطاط سياسي، بالعمالة للنظام القائم، على طريقة هذا النظام نفسه في اتهامه لمعارضيه ومنتقديه بالعمالة للخارج. بالطبع هذا السلوك الآثوري المستهجن لم يكن غريباً على (قيادة آثورية) متناقضة مع ذاتها، متخاصمة مع مبادئها، تمارس التضليل و الازدواجية الحزبية والسياسية في سلوكها وخطابها، إذ كانت بمعظمها وحتى سنوات قليلة مضت منخرطة في صفوف حزب (البعث) الحاكم، تتحرك تحت عباءته العربية، وتردد خلفه الهتافات و الشعارات السياسية البعثية، المعادية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وذات الشخصيات في القيادة الآثورية، المتشبعة بالثقافة البعثيةما زالت الى تاريخه ترفض تتناول المنظمة الآثورية في أدبياتها الرسمية وفي خطابها السياسي مشكلة (الحزام العربي) في الجزيرة السورية وما افرزه من نتائج وآثار خطيرة، بذريعة أن تناول هذا الملف يخدم (التوجهات القومية للحركة الكردية). في حين أن ما ألحقه هذا (المشروع العنصري) الذي نفذته الشوفينية العربية، من أضرار مادية ومعنوية ونفسية وسياسية بالآشوريين (سريان/كلدان) والمسيحيين عامة، لا تقل عن ما ألحقه من أضرار بالأخوة الأكراد، إن لم تزيد عنها نسبياً في بعض جوانبه، جراء محاصرته العشرات من القرى الآشورية(السريانية)، الى جانب العشرات من القرى الكردية، وجرد سكانها من أراضيهم الزراعية، التي كانت تشكل مصدر رزقهم الوحيد ومنحت هبة لعائلات عربية جاءت بها السلطة العربية من محافظات ومناطق سورية بعيدة. المرة الأولى والوحيدة التي ناولت المنظمة (الحزام العربي) كانت في بيان لها أصدرته في تموز 2005 بذكرى التأسيس، وهذه تمت بغياب المسؤول الحالي لمكتبها السياسي (ب.س)، وهو من الحرس الآثوري القديم، حيث كان متواجداً في أمريكا وقد شكل ذاك البيان صدمة كبيرة له دفعته للاتصال من أمريكا محتجاً ومشككاً بنوايا بعض أعضاء المكتب السياسي في تناولهم لقضية الحزام العربي في البيان.على ضوء ما تقدم وفي ظل استمرار ذات القيادات الآثورية المهزومة، التي تحظى برضى مخابراتي سوري واضح، مهيمنة على أرادة ومقدرات المنظمة الآثورية، لا يمكن أن يشكل انفتاحها اليوم على المجتمع السياسي السوري، والذي جاء بعد الانفراج النسبي والمحدود في الحياة السياسية السورية، تحولاً فكرياً نوعياً لديها أو حصول تبدل جوهري في نهجها السياسي وعلى مواقفها من النظام القائم، وإنما هذه الخطوة الانفتاحية المتأخرة جداً هي ليست أكثر من خطوة تكتيكية الهدف منها إعادة تلك القيادات الآثورية المأزومة إنتاج نفسها من جديد، كما أنها محاولات يائسة منها للخروج من الدائرة المغلقة التي تدور فيها. بلا ريب، أزمة التنظيمات والأحزاب الآشورية السورية انعكست سلباً على (المسألة الآشورية) في سوريا، ووضعتها في (مأزق سياسي) يصعب تجاوزه ما لم تبرز أحزاب آشورية جديدة برؤى قومية وسياسية تستند الى عقلية وطنية سورية منفتحة، تتحلى بالجدية و بالمسؤولية و بروح التضحية، وتكون قادرة على التعاطي مع الواقع السوري الجديد و مواكبة تطورات المرحلة الحبلى بالتحديات والاستحقاقات الكثيرة.
سوري مهتم بحقوق الأقليات
[email protected]