ثمّة عدة حقائق يجب الخوض فيها، عشية الزيارة التي من المزمع أن يقوم بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لتركيا، والتي تحمل عنواناً عريضاً، أراد له الأتراك أن يكون موضوع ومحور المباحثات الرئيسي، ألا وهو: حزب العمال الكردستاني. أو ماتصفه أنقرة بكلمة أخرى، بquot;تواجد منظمة حزب العمال الكردستاني في الأراضي العراقيةquot;. والأعلام التركي وقبل أن يطأ قدم المالكي، ووزير خارجيته هوشيار زيباري، ومعهما المبعوث العراقي في quot;اللجنة الثلاثية المكلفة بمتابعة ملف حزب العمال الكردستانيquot; شيروان الوائلي، أرض تركيا، بدأ في جدولة وعرض المطالب/الأوامر التركية التي يجب أن يوافق عليها ويحملها المالكي حين رجوعه من حضرة الباب العالي في أنقرة.
وتتمحور تلك المطالب حولquot; التضييق على حزب العمال الكردستاني ومؤسساته في العراقquot; وquot;إغلاق كافة ممثلياته ومؤسساته{من ضمنها حزب الحل الديمقراطي الكردستاني، الحزب العراقي المرخص والشرعي} ومنع أنصاره من التحرك بحريةquot;. هذا بالأضافة لإغلاق مخيم مخمور، والذي يضم أكثر من 10 آلاف كردي من شمالي كردستان، فروا على مراحل ومنذ الثمانينات، من أمام بطش الآلة العسكرية التركية، بعد ان دٌمرت قراهم، لأتهامهم بتقديم العون للمقاتلين الكرد، ورفضهم الأنخراط في ميليشيات حماة القرى العميلة ومحاربة مقاتلي الحرية من عناصر قوات حماية الشعب التابعة لحزب العمال الكردستاني.
تركيا لن تكتف بهذه المطالب فقط، بل سوف تطالب الحكومة العراقية بالقيام بعملية عسكرية واسعة ضد قوات العمال الكردستاني في كردسان الجنوبية(أو: كردستان العراق)، أو السماح لقوات جيشها المرابط على الحدود بغزو كردستان والتوغل في العمق الكردستاني الجنوبي لقتال المقاتلين الكرد. بكلمة أخرى: أما قتال عناصر الحزب الكردستاني نيابة عن الجيش التركي، أو إطلاق يد الأتراك في كردستان لكي
يقضوا على أعدائهم من المقاتلين الكرد، ويثبتوا لأنفسهم قواعد عسكرية دائمة هناك، بغية منع الكرد هناك من الحصول على مزيد من الحقوق( ضم كركوك+توسيع الفيدرالية...أوالإنفصال!)، والتلويح الدائم بزحف عسكري على أربيل والسليمانية.
ولعل حشد الأتراك لحوالي مائتي الف جندي على الحدود يدل على وجود نوايا عدوانية تركية بالزحف على اقليم كردستان وإحتلاله، بالأضافة إلى التموضع بالقرب من حدود كرستان الشرقية( كردستان إيران: 8 ملايين كردي) تحسباً لضربة أميركية قادمة تطال النظام الإيراني، قد تفضي إلى إنهيار الدولة الإيرانية وتفككها، وإستقلال كردستان الشرقية أو حتى نيلها لصيغة حكم ذاتي موسع، على غرار كردستان الجنوبية.
ومعلوم هنا، ان حزب الحياة الحرة الكردستاني( الوثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني) يٌشكل رأس الحربة الكردية في إيران، وقد سدد مقاتلوه في الأشهر القليلة الماضية ضربات قوية لقوات الأمن والجيش الإيرانيين في العديد من مدن ومناطق كردستان الشرقية. وثمّة تخوف إيراني وتركي حقيقي في أن تفكر واشنطن بالتحالف مع الحزب والإستفادة من قوته وجماهيريته الطاغية حين العمل على الأطاحة بنظام الملالي في طهران. ونقل مسؤول كبير في الحزب لكاتب هذه السطور عن إتصالات تجري بينهم وبين الأميركيين، بغية تحديد آفاق التعاون للتضييق على النظام الإيراني، ومن ضمنها التعاون العسكري وإمكانية دعم الولايات المتحدة قوات الحزب لضمان سيطرته على الساحة السياسية في شرقي كردستان، تمهيداً للضربة الآتية وساعة الصفر الأميركية. ولعل ذلك يبرر الهجمات الإيرانية على قواعد العمال الكردستاني، والتنسيق المستمر ضده مع الجيش التركي في الآونة الأخيرة...
أنقرة تعي كل هذه التطورات، وهي تتوجس كثيراً من المعلومات التي تتحدث عن إتصالات أميركية مع العمال الكردستاني وquot;الأحزاب الشقيقةquot; له في كل من إيران وسوريا: من تلك التي تمسك بزمام المبادرة وتسيطر على الشارع الكردي، قادرةً على تحريكه متى أرادت. ولعل من تابع تصريحات المسؤول الكبير في حزب العمال الكردستاني مراد قره يلان لمجلة التايمز الأميركية وتلويحه بجاهزية الطرف الكردي للعمل على quot;دمقرطة المنطقةquot; وquot;التعاون في ضرب الحركات الأصولية الإرهابيةquot;، يعي جيداً بأن هناك واقع جديد يتشكّل في المنطقة، وأن الولايات المتحدة قد تفكر بأصدقاء جدد تتقاطع مصالحها معهم. وعليه، فإن الخوف التركي له مايبرره الأن، وخصوصاً وأن العمال الكردستاني أعلنّ وقفاً أحادي الجانب لإطلاق النار دخل حيز التنفيذ في 1/10/2006 وذلك بطلب من أطراف اقليمية ودولية وبعض الأجنحة في الحكومة التركية، ووضع متشددي أنقرة والمؤسسة العسكرية أمام مأزق حقيقي.
وزير الخارجية التركي عبدالله غول عبر عن مخاوفه من نوايا واشنطن، مشككاً في جدية الطرف الأميركي الممثل في quot;اللجنة الثلاثية المكلفة بمتابعة ملف حزب العمال الكردستانيquot;، والتي يترأسها الجنرال الأميركي السابق جوزيف رالسون، وشكك غول في نية الطرف الأميركي الصادقة في تسوية ملف حزب العمال الكردستاني، وإنهاء وجوده العسكري في العراق. وكانت تصريحات الجنرال رالسون في إعتبار خطوة وقف إطلاق النار التي أعلنها الكردستاني quot;بداية جيدةquot; قد أثارت حفيظة وحنق ساسة وعسكر أنقرة.
والحال، ان المالكي سوف يٌجابه بسلسلة طويلة من المطالب التركية، التي من المفروض أن ينفذها الجانب العراقي بشكل مجاني، وبدون أي مقابل، بل وحتى وهو ينظر في الطرف التركي وهو يتدخل في الشأن العراقي الداخلي جهاراً نهاراً، وبكل وقاحة.
وينبغي علينا هنا أن نذكرّ الساسة في بغداد بتدخلات أنقرة في الشأن العراقي، منذ الحجج التركية التي سوقهّا وزير الخارجية التركي السابق يشار ياكيش، حين تحضير واشنطن لإسقاط نظام صدام، والأستعادة المتكررة لإتفاقية 5 حزيران 1926 وحصة ال10% في نفط الموصل. وكذلك التصريحات الأستفزازية اليومية عن كركوك وأن تركيا سوفquot; تتدخل حين وقوع المدينة ضمن إدارية اقليم كردستانquot;، وان الأتراك
ملزمون quot;بحماية التركمان والدفاع عن حقوقهمquot;، هذا ناهيك عن رفض الفيدرالية جملة وتفصيلاً، والعمل على كل ما من شأنه إفشالها ومنع تطبيقها...
يخطئ العراقيون حينما يعتقدون بأن تصفية ملف حزب العمال الكردستاني سوف يساعد في تقوية العلاقات مع الأتراك ودفع هؤلاء إلى مساعدتهم في مجابهة الإرهاب وتسوية الوضع الأمني. فالأتراك ولأسباب إستراتيجية كبرى ـ منها الخوف الرهابي من تحرر الشعب الكردي ـ لن يقدموا على فعل أي شيء من شأنه أن يساعد على إستقرار العراق ورسوخ الأمن فيه. وكانت الحكومة التركية قد رفضت السماح للقوات الأميركية بعبور أراضيها لدخول العراق، من أجل إسقاط نظامه. وكان عبدالله غول يطير آنذاك في جولات مكوكية بين العواصم العربية لمنع وقوع حرب تحرير الشعب العراقي من نظام صدام، بل وأسس (حزب العدالة والتنمية) مع كل من النظام السوري ومصر وبقية دول الجوار العراقي ما سمي ببيان إسطنبول، والذي تمخض عن إجتماع إسطنبول ودعى النظام العراقي لتنفيذ القرارات الدولية، مع إدانة ميل الطرف الأميركي لإستخدام القوة العسكرية لإسقاط صدام وعصابته.
تركيا لاتريد الخير للعراق الجديد. وهي لم تقم بما من شأنه أن يٌساعد هذا البلد على النهوض وتجاوز محنته، هذا بالأضافة للحصار المائي الرهيب على العراق، والذي يستهدف تصحيره وسوريا، والذي سوف يقضي قريباً على 40% من المساحة الزراعية العراقية، بإعتراف وزير الموارد المائية العراقي عبد اللطيف رشيد نفسه.
إذن فما مصلحة العراق في تقديم حزب العمال الكردستاني على طبق من ذهب لتركيا؟.
المسؤولون الأتراك صرحوا قبل مدة بأنهم معنيون بالحديث مع الأميركان أكثر من العراقيين في موضوع حزب العمال الكردستاني، على إعتبار أن العراق quot;واقع تحت الأحتلال الأميركيquot;. وزايدوا بأنهم لن يشركوا شيروان الوائلي، المبعوث العراقي في quot;اللجنة الثلاثيةquot; المٌشكلّة لبحث قضية العمال الكردستاني في المباحثات بينهم وبين الأميركان.
الكرد في العراق، وحكومة كردستان لهم موقف آخر من القضية، وهم لايذهبون مذهب الحكومة العراقية في الرضوخ والأنبطاح أمام الإرادة التركية. وكان الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني قد دعيا في وقت سابق أنقرة لحل القضية الكردية بالحوار مع كل من حزبي العمال الكردستاني وواجهته السياسية المجتمع الديمقراطي. وقالت بعض المصادر الخاصة أن البارزاني قد أفهم المنسق الأميركي الجنرال رالسون، بأن القضية الكردية قديمة في تركيا، وهي ليست وليدة اللحظة، بل هي قضية شعب محروم من كل حقوقه، وإن إغلاق مقار العمال الكردستاني، أو تجريد مقاتليه من سلاحه، لن يحل القضية أبداً، بل سوف يؤزم الوضع أكثر فأكثر، وسيخلق بؤرة توتر جديدة في المنطقة، العراق بغنى عنها. هذا ناهيك عن ان الحزب لن ينتهي بتلك الأجراءات، وسوف يتابع نضاله، أو تظهر منظمات أخرى تتابع المسيرة، وبطريقة قد تخرج عن سيطرة الجميع...
السياسي العراقي المخضرم محمود عثمان قال في مناسبة سابقة بأن قواعد الحزب موجودة على أراضي كردستان الجنوبية، الواقعة تحت سيطرة الحكومة الكردية، وبذلك فإن أي قرار تصدره بغداد، يستطيع الجانب الكردي إبطاله وإستخدام الفيتو بحقه، أو إبقائه في نطاق الكلام النظري فقط. وطالب عثمان الزعماء الكرد في كردستان الجنوبية بحماية حركة التحرر الكردستانية في شمالي كردستان، وعدم تقديم أي تنازل للأتراك أو غيرهم، قد يؤدي في نهاية الأمر لإضعاف هذه الحركة، التي تمثل حصيلة نضال مرير أستمر منذ 25 عاماً، وأن الكرد في كردستان المركزية ملتفون حول هذه الحركة، ويتطلعون لدور كردي جنوبي أكثر فعالية لحل القضية والضغط على أنقرة لدفعها للحوار والتفاوض.
الحكومة العراقية عليها لعب دور الوساطة لحل هذه القضية مع الأتراك. أن تتحول لجزء من الحل وليس العكس. وبغداد قادرة على الضغط على حليفتها واشنطن لإرغام تركيا على تسوية الملف الكردي، والتحول لدولة ديمقراطية، تتلفت لشأنها الداخلي، وتترك جيرانها بسلام، وتكف بالتالي عن حشد عشرات الآلاف من الجنود تحسباً لأي quot;تطورات مستقبليةquot; قد تفضي لنيل الشعب الكردي لبعض من حقوقه الأنسانية المشروعة هنا أو هناك....
- آخر تحديث :
التعليقات