ليس أمراً مؤسفاً فقط أن نظل في شرقنا الأتعس، نلوك أسئلة وإشكاليات مطلع القرن الماضي حتى اليوم دون ملل أو جدوى، أوحتى التوصل إلى مجرد حد أدنى من القناعات المشتركة، للأسس التي ينبغي أن ترتكز عليها بنية الدولة الحديثة وطبيعة وشكل السلطة في العالم الإسلامي، وهو أمر لا أحسبه يمثل سوى الأعراض الأولية لحالة quot;احتضار أمةquot;، والمقدمات المتعسرة لأفول ثقافة دوجمائية خرقاء، طالما سادت وتجذرت على امتداد التاريخ واتساع الجغرافيا.
وعلى الرغم من أن النخب في معظم بلدان العالم الإسلامي مازالت تتناحر في ما بينها متلذذة بالجدل العقيم الممل، حول إشكالية الدين والسياسة، وتطرح دون حسم أسئلة عما إذا كانت الديموقراطية تتسق مع الموروث الإسلامي الممثل في الشورى، والتي تتسع أيضاً هوة الخلاف حولها، وما إذا كانت quot;ملزمة أو معلمةquot;، وهنا تبرز صعوبة البحث عن إجابات لأسئلة تبدو بالغة البساطة، كالسؤال مثلاً عن سبب تخلف الشرق الإسلامي، وتقدم الغرب المسيحي، مع أن الإسلام خاتم الرسالات والغرب ليس لديه كتاب ولا سنة؟
وبالطبع سيتطوع جيش من المهووسين بمضغ أطنان الكلمات، قبل تقديم إجابات إنشائية جوفاء، بعضها يثير الشفقة أكثر مما يثير السخرية، حين يزعم البعض أن الغرب غير متقدم لأنه غير مسلم، وإن التقدم ليس في انتاج الطائرات والأسلحة والأقمار الصناعية وأجهزة الكمبيوتر، لنقع بمثل هذا الخطاب في فخ خداع الذات وتملقها، فكل تقدم عدا الاسلام هو تخلف، ووفقاً لهذا يصبح البرلمان الاوروبي تخلفا. وتمسي مفاخر الصناعة وإنجازات الطب تخلفا، وتغدو قيم نبيلة كالصدق في المعاملة، والالتزام بالمواعيد، واحترام حقوق الانسان، واتقان العمل، والعدل في الرعية، وكفالة حاجات الناس ورفاههم.. تصبح كل هذه القيم الإنسانية الرفيعة quot;تخلفاًquot;، كما يزعم المهووسون دينياً، المغرقون في سباتهم داخل كهوف مظلمة.
ولا يتسع المجال هنا لاستعراض وافٍ لما يسوقه منظرو حركات الإسلام السياسي لنرى كيف يحيلون الأمر على تعميمات يكتنفها الغموض، منها مثلاً خرافة quot;دولة الخلافةquot; التي تطبق شرع الله، وتقيم العدل بين المؤمنين كافة، لكن هؤلاء سيتجاهلون عمداً إي خوض في التفاصيل، حيث تسكن الشياطين، كالحديث مثلاً عن رؤيتهم لأوضاع المرأة، أو معاملة غير المسلمين، ومدى كفالة حق الاعتقاد دون تمييز أو وصاية، أو أسس وآليات التواصل مع الأمم الأخرى، ولو وجهنا سؤالاً واحداً إلى عضو في جماعة الإخوان المسلمين، أو في تنظيمات إرهابية أخرى كالقاعدة أو الجماعة الإسلامية أو الجهاد أوغيرها، عما يطمحون إليه من أهداف سنتلقى ذات الإجابة وهي تتلخص في عبارة : quot;إقامة الدولة الإسلامية على منهاج النبوة والخلافة الراشدة، وتعبيد الناس لربهم، وإعلاء كلمة الله في الأرضquot; وهذه كما نرى عبارات عامة يتطلب كل حرف فيها إلى مناقشات، فضلاً عن أن مصطلحات ومفاهيم مثل quot;الخلافة الراشدةquot;، وquot;منهاج النبوةquot;، وquot;الدولة الإسلاميةquot;، وquot;تعبيد الناس لربهمquot;، وغيرها من المصلحات الخلافية، لم تزل السجالات حولها مستعرة منذ يوم الجمل حتى يومنا المعاصر هذا، من دون أدنى بارقة أمل في مجرد تحديد المفهوم وضبط دلالته.
..........
ولعل هذه الطريقة في التفكير والتعاطي مع الحياة ـ التي يبدو أن كائنات شرقنا الأتعس تنفرد بها ـ تقودنا بالضرورة إلى مدى تجذر الطبيعة الديماجوجية بين قادة وأنصار تلك المنظمات الدينية الحركية، التي تعادي الحياة وتمجد الموت وتحرض على الانتحار من خلال ما يطلقون عليه quot;ثقافة الاستشهادquot;، كما تشير هذه الرؤى أيضاً إلى نتيجة مؤداها أن quot;الكل في واحدquot;، وأن ما يبدو quot;معتدلاًquot;، ليس أكثر من جناح سياسي للآخر quot;المتشددquot;، وأن الأزمة الحقيقية تكمن في بنية هذه الثقافة التي تصطدم بالحياة.
ولا يحسب المرء أنه يبالغ، أو يذهب بعيداً، أو يطلق أحكاماً عامة، إذا قال بوضوح إن جوهر منظمات الإسلام السياسي واحد، وتتسع عباءته لتشمل الجميع، من الأخوان حتى القاعدة, فقد تتلون جلودهم, لكن يجمعهم هاجس واحد، هو quot;دولة تحكم بشرع اللهquot; وهذا هو أكثر المفاهيم غموضا وهلامية، وإذا سألنا عن تجاربهم المأسوية السابقة في أفغانستان والسودان والصومال وغيرها, فلن تكون سوى إجابة نمطية من طراز القول quot;إن هذه التجارب ليست حجة على الإسلامquot;، وإذا انتقلنا عبر التاريخ لنسأل عن دولة واحدة من بشر وحجر، لنعتبرها نموذجاً يقتدى، منذ أن دشن معاوية بن أبي سفيان، quot;ملكه العضودquot; حتى اليوم، فلن نجد جواباً اللهم إلا سفسطة فارغة، وتعبيرات منمقة خالية تماماً من دسم الحقيقة والمعنى.
وفي تقديري الشخصي فإن الغرب لم يتقدم لأنه quot;مسيحيquot;، والشرق لم يتخلف لكونه quot;إسلامياًquot;، لكن الغرب تقدم بفضل الفصل الحاسم بين المطلق والنسبي، أي بين الدين والسياسة، وهو ما لا يتأتى إلا لأمة تعلمت من تجاربها التاريخية، فقد خلص الغرب لهذه القناعة الراسخة بعد أن دفعوا ثمن تعاظم دور الكنيسة حتى أصبحت طرفاً في كل أنشطة الحياة في الغرب إبان العصور الوسطى على النحو المعروف للكافة.
أما في شرقنا الأتعس فهناك فريق هائل من quot;سماسرة السماءquot;، من ذوي المصلحة في الإبقاء على سيطرة quot;مؤسسة القداسةquot; عبر ما يسمى بالخلافة تارة، والإمارة تارات، ولا يدري المرء أي خلافة يقصدون، وعن أي إمارة يتحدثون؟، أهي الأموية أم العباسية أم الفاطمية أم العثمانية أم إمارة طالبان أم ماذا بالضبط؟.
والحقيقة أن ما حدث عبر حقب التاريخ بالفعل أن هذه quot;الخلافةquot; لم تكن تعني سوى اختزال الأمر في فرض بعض المظاهر اللإنسانية والممارسات الفاشية المتلفعة زوراً بالسماء، والتي نؤكد أنها لا ننطلق من رؤية متشائمة أو كراهية أو نسعى إلى تشويه صورة أحد، بل غاية ما نفعله هنا أن نرصد بعضها كالتالي :
ـ سنرى نصف المجتمع من النساء معتقلات خلف أبواب موصدة, إذ ينبغي عليهن أن quot;يقرن في بيوتهنquot;.
وسنرى رجالاً يتبارون في الفظاظة ويتنافسون في تجهم الوجوه, ويشكلون جماعات من المسلحين تطوف الشوارع لتعتقل غير المصلين، فضلاً عن تخصيص ساحات لتتجمع فيها الجماهير التعسة، ليس لمشاهدة مباريات رياضية أو عروض فنية, بل للاستمتاع برؤية مشاهد مفجعة كبتر الأيدي وقطع الرؤوس.
وسنضطر للعيش في ظل مجتمع يحكمه فرد تحيطه هالة من القداسة هو الخليفة، أو الأمير، الذي يحكم بلا هيئات ولا مؤسسات أللهم إلا مؤسسة quot;الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرquot;.
ولن يكون بوسعنا تغيير الحاكم، مادام يقيم ما يظنه الشرع ويقطع الرقاب ويبتر الأيدي ويرجم الضالين.
ولا نستطيع مجرد طلب مناقشة ميزانية الدولة، فالمال في يد quot;الخليفة الأمينquot;، الذي لا ترقى إليه الشكوك، ولا يأتيه الباطل من خلفه أو من أمامه أو من أي اتجاه.
كما لن نملك مجرد محاولة الدفاع عن حقوق العاملين أو الاحتجاج على قانون أو الاعتراض على سياسات بتنظيم المظاهرات أو الاعتصامات, فهذا رجس من عمل الشيطان ومن شأنه تفريق الصفوف وإثارة الفتن.
ولن يكون بمقدورنا أيضاً الدفاع عما نطلق عليه quot;حرية التعبيرquot;، إذ سنشهد مصادرة قاسية لأي فكر أو دين اوعقيدة مخالفة, فلدينا الكتاب والسنة ومن خالف هذا فهو كافر مرتد يستحق اللعنة وهدر الدم.
...........
باختصار فإن أزمتنا بوضوح تكمن في صمتنا حيال منظمات وحركات إرهابية اختطفت الإسلام، لتبتعد بذلك عن كونها تيارات سياسية يمكن مناقشتها، لأنها في حقيقة الأمر مجرد منظمات فاشية إرهابية عصابية.
والله المستعان
[email protected]