كان رد الحكومة حازماً وحاسماً في الوقت ذاته. كان لا بدّ من الموافقة على مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي في قضية أغتيال الرئيس رفيق الحريري بغية وضع حدّ نهائي لثقافة الأغتيال والقتل وألغاء الآخر في لبنان. كان لا بد من الوقوف بقوة في وجه الخائفين من العدالة بعدما دخل المشروع الأنقلابي الهادف ألى الأستيلاء على السلطة في لبنان مرحلة جديدة في ضوء أستقالة وزراء quot;حزب اللهquot; وحركة quot;أملquot; من الحكومة. من يذهب ألى حرب مع أسرائيل من دون أستشارة اللبنانيين الآخرين آخذا البلد ألى كارثة، يمكن ان يذهب ألى تخريب لبنان بشكل أوسع عن طريق النزول ألى الشارع والذهاب بعيداً في تنفيذ المحاولة الأنقلابية الهادفة ألى أعادة وضع البلد تحت الوصاية .
يبدو الهدف واضحاً كلّ الوضوح. لا حاجة ألى منجّم لمعرفة ما يجري في لبنان هذه الأيّام. كان كافياً وصول نص مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي ألى بيروت، كي يبدأ تنفيذ الخطوات التمهيدية الهادفة ألى أسقاط حكومة فؤاد السنيورة من داخل بعد فشل محاولات التهويل من خارج. من الطبيعي أن يكون كلّ هذا التركيز والجهد على أسقاط الحكومة، أقلّه لسببين. السبب الأوّل أن الحكومة ترمز ألى الأستقلال والسيادة والحرية والتحرر والتقدميّة والعروبة الصادقة التي ينتمي أليها الشهيد رفيق الحريري. أما السبب الآخر فهو يعود ألى أن هناك من يخشى المحكمة الدولية كونها ستكشف قتلة رفيق الحريري.
تستهدف المرحلة الجديدة من المحاولة الأنقلابية التي يتعرّض لها لبنان هذه الأيّام الأسس التي يقوم عليها البلد. والمؤسف أنّ شخصاً مثل النائب ميشال عون يشارك فيها، بعدما أدّعى طويلاً أنه يعمل من أجل السيادة والأستقلال ألى أن تبيّن أنّه ليس سوى أداة صغيرة أستخدمها النظام السوري في الماضي للدخول ألى قصر بعبدا ووزارة الدفاع في العام 1990 . الآن، لا يزال النظام في دمشق يعتبر أن في أستطاعته أستخدام هذه الأداة مجدّداً. لا يزال عون يصلح لهذه المهمة، مهمة خدمة نظام الوصاية السوري، مع فارق أنّه صار الآن في خدمة quot;حزب اللهquot; الأيراني الذي أحسن توظيفه في أطار المحاولة الأنقلابية التي يسعى ألى تنفيذها لحماية النظام السوري من سيف العدالة. هل يستطيع عون أن يثبت ولو مرّة واحدة أنّه يصلح لشيء آخر غير لعب دور الأداة؟
لا شك أن الهجمة على لبنان ستشتدّ خصوصاً أنّ النظامين في سوريا وأيران يلتقيان عند هدف واحد هو أعادة الوضع في البلد ألى ما كان عليه قبل أغتيال رفيق الحريري بالنسبة ألى الأوّل وقبل الثاني عشر من يوليو- تمّوز الماضي بالنسبة ألى الثاني. فالنظام السوري يدرك أن المحكمة ذات الطابع الدولي ستعرّيه وستكشف خلفية الجرائم التي أرتُكبت في لبنان بدءاً بمحاولة أغتيال الوزير مروان حماده في الأول من تشرين الأوّل- أكتوبر 2004 وأنتهاء بأغتيال أبن شقيقته ألزميل جبران تويني في ديسمبر- كانون الأوّل من العام الماضي. ولذلك كان طبيعياً أن يطلب الرئيس بشّار الأسد من مبعوث رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وقف التحقيق في جريمة أغتيال رفيق الحريري، والحصول على ضمانات من الأدارة الأميركية في شأن مستقبل نظامه، وأستعادة نفوذه في لبنان. وهذا ما أشارت أليه مجلة quot;ذي أيكونوميستquot; الصادرة في لندن وهي من وسائل الأعلام القليلة التي تمتلك صدقية في بريطانيا. بالطبع، طالب الأسد بأستعادة الجولان حيث لم تطلق رصاصة منذ العام 1974، والأرجح أنّه فعل ذلك من باب رفع العتب لا أكثر ولا أقلّ. ما دام الرئيس السوري يطالب رئيس الوزراء البريطاني بأن يفعل له شيئاً في قضية أغتيال باني لبنان الحديث ومؤسس نهضته، هل من المستغرب أن يدعو حلفاءه وأزلامه في لبنان ألى أن يعملوا شيئا من أجل التخلص من المحكمة ذات الطابع الدولي؟
أمّا النظام الأيراني الذي يدرك معنى تعرض النظام السوري لهزة قويّة، فهو يشعر أن نتائج الحرب الأخيرة لم تكن لمصلحته. لقد قدّم quot;حزب اللهquot; الصيف الماضي كل المبررات كي تدمّر أسرائيل لبنان وتعيده عشرين عاماً ألى خلف، وكانت النتيجة صدور القرار الرقم 1701 الذي بذلت حكومة السنيورة والأشقاء العرب جهوداً جبّارة لتحسينه في الجلسات التي عقدها مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة. ولكن في ختام المطاف، أغلق القرار جبهة جنوب لبنان في وجه أيران وليس في وجه العدو الأسرائيلي فقط. ولذلك سيبذل النظام في طهران جهوداً كبيرة كي لا يُنفّذ القرار 1701 الذي حرمه من جبهة جنوب لبنان ومن المتاجرة باللبنانيين من أجل عقد صفقات مع الأسرة الدولية على رأسها quot;الشيطان الأكبرquot; الأميركي. هذا الشيطان الذي ليس معروفاً أين هو في مواجهة مع النظام الأيراني وأين يتواطأ معه كما الحال في العراق وأفغانستان.
متى نظرنا جيّداً ألى ردود الفعل السورية والأيرانية، وهي ردود شرسة تظهر من خلال تصرّفات الأدوات الموجودة في تصرّف النظامين المذكورين في لبنان ، لا يمكن ألاّ التكهن بأنّ التصعيد في البلد الصغير هو الوسيلة الوحيدة لخروج النظامين من الطريق المسدود الذي وصلا أليه. أخطأ النظام السوري في حساباته عندما أعتقد أن جريمة أغتيال رفيق الحريري ستمرّ مثل غيرها من الجرائم التي أستهدفت شخصيّات من عيار كمال جنبلاط والمفتي حسن خالد وبشير الجميّل ورينيه معوض وعشرات، بل مئات آخرين. لم يدرك أن العالم تغيّر وأن جريمة أغتيال رفيق الحريري في حجم الخطأ ألذي أرتكبه صدّام عندما أجتاح الكويت. وأخطأ النظام الأيراني في حساباته اللبنانية عندما أعتقد أن لا شيء يمكن أن يغيّر الوضع في جنوب لبنان حيث في أستطاعته تحدّي أسرائيل حتى آخر لبناني وحتى آخر حجر في آخر قرية لبنانية... ألى أن صدر القرار 1701 .
كلّ ما يمكن قوله في ظلّ هذه المعطيات، ليكن الله في عون لبنان واللبنانيين الذين كتب عليهم في ما يبدو أن يظلّ بلدهم quot;ساحةquot; تستخدم في عملية أبتزاز لا علاقة لها بمصالح البلد الصغير لا من قريب ولا من بعيد!كلّ ما يمكن قوله أيضاً أن لبنان دخل أزمة سياسية أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها طويلة ومعقّدة...