-1-
سوف يكون يوم الثلاثاء الماضي 31/10/2006 في التاريخ اللبناني الحديث، يوماً مشهوداً كباقي الأيام الأخرى، التي كانت نقاط تحوّل في هذا التاريخ. والسبب في ذلك أن الجلسة البرلمانية التي عُقدت في هذا اليوم كانت أعنف جلسة برلمانية ليس في تاريخ لبنان فقط، ولكن في تاريخ الأمة العربية كلها. فلم يُشتم حاكم عربي كما شُتم أميل لحود رئيس الجمهورية. فقد هوجم هجوماً غير مسبوق من قبل معظم نواب المجلس النيابي اللبناني. وأُطلقت عليه ألقاب جارحة وبذيئة منها لقب quot;عاهرة quot; ونُطقت صراحة (قحبة)، مما دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى طلب حذف هذه الكلمة من محضر الجلسة النيابية، التزاماً بالوقار والعفة!
كذلك، شهد هذا اليوم أطول مقابلة تلفزيونية (ثلاث ساعات) أجراها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله مع تلفزيون الحزب (المنار)، وفيها أعلن بصورة غير مباشرة وبدون تصريح، بأنه إذ لم تقم في لبنان حكومة وحدة وطنية تُمثل كافة الأطياف السياسية اللبنانية، دون استثناء (وهذا مستحيل بالطبع، ولم يتحقق منذ الاستقلال اللبناني عام 1943) فهناك احتمال بدء قيام حرب أهلية، وذلك عندما هدد نصر الله في هذه المقابلة، بنـزول حزب الله ومن معه من الحلفاء السياسيين إلى الشارع، والزحف على سرايا الحكومة والبرلمان للمطالبة باسقاط الحكومة الحالية، وإجراء انتخابات مبكرة. وقال نصر الله، بأن التغيير سيكون من الشارع عبر الدعوة إلى انتخابات مبكرة. وأكد مقدرته على إسقاط الحكومة الحالية في حال فشل التشاور. ومن المحتمل، أن لا يسكت الفريق الآخر الحاكم الآن (قوى 14 آذار) عن هذا التهديد، فيما لو تمَّ . فالفريق الحاكم سوف ينزل هو الآخر إلى الشارع. ورغم وعد وتعهد حسن نصر الله في المقابلة التلفزيونية، بأن لا يستخدم عنفاً ولا رصاصاً في هذه المنازلة، فمن يضمن أن الفريق الآخر لن يستخدم ذلك، فيردَّ عليه فريق حزب الله وحلفاؤه برصاص وعنف مماثل؟ سيما وأن حزب الله قد استعرض قوته العسكرية الضخمة في هذا اللقاء التلفزيوني، وقال نصر الله بأن حزبه يملك أكثر من 33 ألف صاروخ الآن. وهذه الجموع كلها، لن تنزل إلى الشارع اللبناني لكي ترقص الدبكة الشعبية اللبنانية مع بعضها بعضاً، ولكنها بالتأكيد لتعيد ما حصل عشية عام 1975 ، عند بدء نشوب الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت 15 عاماً. وهذا ما عبّر عنه النائب اللبناني أكرم شهيب أحد كبار مساعدي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط حين قال: quot;إن الاحتجاج سوف يقابله احتجاج آخر، وطلقة الرصاص لن تواجه بزهرةquot;.

-2-
ما هي المؤشرات التي تقود إلى امكانية قيام حرب أهلية في لبنان، إذا نفّذ حسن نصر الله تهديده ndash; وهو صاحب الوعد الصادق - بالنزول إلى الشارع - كما قال - فيما لو فشل لقاء التشاور والحوار بين القوى اللبنانية، الذي دعا اليه نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، بدلاً من حكومة الأكثرية القائمة الآن، خاصة بعد استقالة الوزراء الشيعة، واقرار الحكومة اللبنانية لمشروع المحكمة الدولية، رغم معارضة رئيس الجمهورية وحزب الله وحركة أمل وحلفائهم؟
المؤشر الأول، أن حزب الله اعتبر نفسه المنتصر نصراً استراتيجياً وإلهياً قاطعاً لا شك فيه ولا جدالndash; كما أعلن سابقاً- ومن يقول غير ذلك فهو ndash; برأيه - يخون المقاومة، ويخون شعاراتها، ويخون الوطن كذلك. لذا، فمن حق حزب الله وحلفائه أن يحكم لبنان الآن، وليس quot;تيار المستقبلquot; وحلفاؤه. ولذا، فهو يطالب بحكومة وحدة وطنية، يكون هو وحلفاؤه من أتباع سوريا وإيران هم الأغلبية فيها أو الثلث المُعطِّل. في حين لبنان منذ الاستقلال عام 1943 حتى الآن، لم يشهد حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها كل القوى السياسية الموجودة على الأرض، كما يطالب حسن نصر الآن. سيما وأن هذه الحكومة تتمتع بالأكثرية في مجلس النواب، وجاءت إلى الحكم ديمقراطياً ودستورياً، وأن فيها خمسة وزراء من حزب الله وحركة أمل الشيعية المتحالفة مع حزب الله.

فما معنى أن يطالب نصر الله بحكومة وحدة وطنية الآن؟
وماذا يعني أن ينسحب هو حلفاؤه من الحكومة عند وصول مشروع المحكمة الدولية لاقراره من قبل الحكومة والبرلمان؟
- هل السبب، هو السعي لتعطيل قيام المحكمة الدولية التي أقرها مجلس الأمن وعارضها حلفاء سوريا وإيران جهراً ، كما فعل الرئيس اميل لحود في تقريره المنشور في نفس اليوم الذي بثت فيه قناة quot;المنارquot; مقابلة نصر الله المذكورة، كما عارضتها حركة أمل والقوى اللبنانية الأخرى المتحالفة مع سوريا وإيران جهراً حيناً، وسراً حيناً آخر؟

- هل السبب، هو الكفُّ عن الكلام الرسمي من قبل الحكومة الحالية عن الحجم الهائل للدمار والخسائر المادية والبشرية والعمرانية الفظيعة والشنيعة التي أصابت لبنان نتيجة لحرب تموز/يوليو 2006 مع اسرائيل، والتي قال نصر الله أنه لو كان يعلم بهذا الحجم الكبير من الخسائر لما أقدم عليها، والتي تُظهر حزب الله بمظهر الفئة المغامرة التي تتخذ قرارات مصيرية فردية، وكأنها هي الفئة الوحيدة التي تعيش في لبنان؟

وقد تحقق هذا الهدف، بحيث أن لا أحد في لبنان يتحدث اليوم عن خسائر quot;حرب حزب الله مع اسرائيلquot;، بقدر ما يتحدثون عن الكارثة التي يمكن أن تتحقق من هذا النـزاع السياسي المحتدم الآن.

-3-
المؤشر الثاني، جاء من أن نصر الله في هذه المقابلة كان يتكلم بمنطق القوة العسكرية والسياسية، وليس بمنطق الحوار السياسي. وأنه أصبح quot;قوة إقليمية عظمىquot; كما قال وليد شقير مدير مكتب quot;الحياة quot; في بيروت (quot;الحياةquot; 2 /3/2006)
فاعتمد لغة التحذير والتهديد والفرض والأمر والنهي. فهو لكي يخيف منافسيه من قوى 14 آذار، قال إن المقاومة في لبنان قوية وقادرة وجاهزة، ولن يستطيعوا النيل منها أيا تكن التحديات المقبلة. وأعلن بأنه يملك أكثر من 33 ألف صاروخ، بينما كان عدد هذه الصواريخ في 22/9/2006 ndash; كما أعلن نصر الله في خطابه - 13 ألف صاروخ فقط. وليس لدينا أية معلومات، كما لا تملك أية جهة أخرى أية معلومات عن صحة هذه الأرقام. ونصر الله وحده فقط هو صاحب هذا الرقم. ومهما كان عدد آلاف الصواريخ التي يملكها حزب الله فهو دون منازع أقوى من أية قوة عسكرية رسمية أو طائفية موجودة في لبنان. وهذه الرسالة التي أرسلها نصر الله عن عدد صواريخه وعن قوة عضلاته، ليست موجهة لأمريكا، وليست موجهة لفرنسا، ولا لإسرائيل، ولا لأية دولة عربية، ولكنها موجهة لمنافسيه من السياسيين اللبنانيين الذين عليهم - كما يتبين من تهديد نصر الله لهم ndash; أن يسجدوا الآن أمامه طائعين صاغرين، ويستجيبوا لكل مطالبه. فعدد صواريخ حزب الله من الأسرار العسكرية التي يجب عدم اذاعتها. والمستفيد منها هو اسرائيل التي ستقوم مستقبلاً بالاستعداد العسكري لمواجهة أخطارها. فلماذا يغامر نصر الله بكشف هذه الأسرار العسكرية، ومن هو المقصود بالتهديد بإذاعة مثل هذه الأسرار العسكرية، غير المنافسين السياسيين اللبنانيين لحزب الله؟

أما الشق الآخر لمنطق القوة العسكرية الذي تحدث به نصر الله ، فقد جاء في عبارة نصر الله المتغطرسة والمتحدية للعالم كله، والتي قال فيها: quot; إن الدنيا كلها لن تنال من عزة حزب الله .quot; كذلك جاء في مضمون كلامه، وكأنه أمر عسكري من القائد الأعلى لجنوده في الميدان، والذي قال فيه: quot;ان المهلة المُقدَّرة للتحرك تبدأ بعد اسبوع من بدء الاجتماع التشاوري اذا لم يُستجب لمطلب قيام حكومة الوحدة الوطنية، والا فسيكون التحرك حالاً، اذا لم يُرد الفريق الآخر الذهاب الى المشاورات.quot; وهذا يعني أن نصر الله وحده هو الذي يحدد quot;ساعة الصفرquot; للمستقبل اللبناني، ولمصير لبنان. وقال عضو بارز في quot;قوى 14 آذارquot; : quot;ان نصرالله كشف الخطة ووضع لها توقيتاً وساعة .quot;

-4-
والمؤشر الثالث، لاحتمال قيام حرب أهلية جاء من خلال ما قاله نصر الله، من أن من كان يراهن على الرصاص من أجل استجلاب قوات متعددة الجنسيات، فإن حزب الله سيواجه اية محاولة بالحكمة والدراية وطلقة النار بالنسبة للمقاومة تطلق على اسرائيل فقط ولا خوف من حرب أهلية او فتنة مذهبية، بل الخوف مما يضمره الاميركيون من مخططات للهيمنة على المنطقة. وقال quot;انصحهم بأن لا يخطئوا وليردوا على الشارع بالشارعquot;. ولكن نصر الله خير من يعلم، بأن الشارع العربي الغوغائي، لا ضابط له. وأن الشارع العربي ليس هو الشارع الغربي. فمعظم من يلجأون إلى الشارع في العالم العربي هم من الغوغاء، غير المنضبطين السارقين المخربين. وطلب نصر الله بأن يتم الرد على شارعه بشارع مقابل هو مطلب تحدٍ للطرف الآخر، ودفع الطرف الآخر إلى الشارع، حيث لا ضابط للشارع اللبناني على وجه الخصوص، مما سوف يؤدي إلى الصدام الحتمي بين الطرفين، ولا يعلم أحد مدى وطبيعة هذا الصدام.

-5-
والمؤشر الرابع، جاء من اتهام نصر الله للحكومة الحالية ولـ quot;قوى 14 آذارquot; اتهامات خطيرة، ربما تصل إلى حد الخيانة. فهو يتهمها بأنها تسعى الى تحويل لبنان الى افغانستان جديدة، وعراق جديد. وحذر نصر الله الفريق نفسه من الاصرار على الاستئثار بالسلطة، والتسلط، وإلغاء الآخر، والاستقواء بالخارج، وبالتالي جرّ لبنان الى الهاوية. علماً بأن حزب الله ممثل في الحكومة كما أن حلفاء حزب الله من حركة أمل ممثلون أيضاً في الحكومة. وأن quot;قوى 14 آذار غير مستأثرة بالسلطة، وليست لاغية للآخر كما يقول حزب الله. وأن التيار الرئيس الوحيد غير الممثل بالسلطة حالياً هو تيار ميشيل عون (التيار الوطني الحر)، الساعي إلى رئاسة الجمهورية والمتصالح مع سوريا وإيران وحزب الله، وكل طرف اقليمي أو لبناني يساعده على الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية.

-6-
والمؤشر الخامس، هو أن حزب الله ومن معه من الحلفاء الآخرين يريدون الصدام ويسعون إلى الصدام في الشارع مع قوى 14 آذار، ليس كرهاً في قوى 14 آذار، ولكن كرهاً وكيداً بأمريكا والمتحالفين معها من الأنظمة العربية في المنطقة، وانتصاراً لمحور سوريا ndash; ايران، المعادي للسياسة الأمريكية في المنطقة. ولكي يعود لبنان من جديد ساحة سياسية واسعة ومفتوحة لتصفية حسابات الآخرين مع بعضهم بعضاً، كما كان عليه الحال أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وهذا هو الظاهر الآن من موقف أمريكا الرافض لاسقاط الحكومة الحالية ومن موقف سوريا وإيران الداعي إلى اسقاط هذه الحكومة أو تعديلها. وهذا الصدام يبدو الآن شبه حتمي، بين الطرفين المتصارعين، في ظل مطالبة حزب الله المتشدد في ضرورة قيام حكومة وحدة وطنية، والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وفي ظل رفض قوى 14 آذار هذين المطلبين، وتمسكهم برفضهما، لأنهم إذا ما وافقوا على مطالب حزب الله، فسيفقدون فعلياً قدرتهم على فرض قراراتهم داخل مجلس النواب. واذا رفضوا ستنهار الحكومة الحالية، وسيفقد النظام كله شرعيته. وهذا مما دفع مبعوث الامم المتحدة تيري رود لارسن لإن يقول في تصريحات للصحفيين في نيويورك: quot; إن الوضع في لبنان مثير للقلق، وإن المساجلات السياسية تُظهر أن هناك توترات مرتفعة جداً.quot;

-7-
والمؤشر السادس والأخير، هو أن حزب الله يعلم علم اليقين، بأن قوى 14 آذار لن تقبل بتعديل الحكومة الحالية أو تأليف حكومة جديدة إلا من خلال تغيرات سياسية جذرية منها استقالة رئيس الجمهورية وانتخاب رئيس جديد. وهو ما قالته قوى 14 آذار من أنها ليست في وارد القبول بمبدأ توسيع الحكومة أو تغييرها بما يوفر للمعارضة quot;الثلث المعطّلquot;، وان سقفها الواضح الذي سيطرح في جلسة التشاور هو quot;سلة كاملةquot;، تبدأ بأزمة الحكم، اي تغيير رئيس الجمهورية، ورفض أي خوض في تغيير الحكومة الا على هذا الاساس. وقالت هذه الاوساط ان التسليم بمنطق توسيع الحكومة او تغييرها على أساس اعطاء المعارضة الثلث المعطّل يعني بالنسبة الى قوى 14 آذار quot;تسليم السلطة الى سوريا وايران، وهذا ما لن تقبله اطلاقاً قوى الغالبيةquot;.

-8-
هذه المطالب السياسية جميعها من قبل حزب الله والأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى المتحالفة معه، لم تكن قائمة قبل حرب تموز/يوليو 2006 بين حزب الله واسرائيل. وكانت الحكومة اللبنانية الحالية حكومة وحدة وطنية مرضي عنها، بل وشارك فيها حزب الله وحركة أمل الحليفة له بخمسة وزراء، وأصروا رغم كل العواصف السياسية التي مرت بها الحكومة الحالية والخلافات الحادة بينهم وبين وزراء قوى 14 آذار أن يبقوا في الحكومة ولا يستقيلوا. كذلك سبق للرئيس السنيورة أن عرض على تيار ميشيل عون (التيار الوطني الحر) المشاركة في الوزارة لكن هذا التيار رفض ذلك. ووُصفت هذه الحكومة بأنها quot;المقاومة السياسية اللبنانيةquot; لنجاحها في وقف الحرب.

فما الذي تغيّر الآن وتبدّل؟
واضح، أن ما تغيّر الآن وتبدّل، هو نتائج الحرب بين حزب الله واسرائيل، والتي اعتبرها حزب الله والمتحالفون السياسيون معه بأنها كانت نصراً استراتيجياً وإلهياً كما قال في خطابة في 22/9/2006، وأنه كان المنتصر الأكبر فيها. والمنتصر هو الذي يحكم في قانون الحرب والسلام، وفي قاموس حزب الله السياسي. وهذه أول استحقاقات النصر السياسية التي يطالب بها الآن حزب الله. وما زالت قائمة المطالب طويلة ولن تنتهي إلا عند اقامة دولة اسلامية في لبنان على غرار دولة الملالي الإيرانية الحالية، كما سبق وقال كثير من زعماء حزب الله، في كتاب نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله (حزب الله: المنهج والتجربة والمستقبل).
والمخرج الوحيد من هذه الأزمة ليس النزول إلى الشارع المتشنج والمحتقن. فالشارع ndash; خاصة الشارع العربي - ليس هو الحكم. ولكن المخرج هو الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة تكون الحَكَم والفيصل بين الأطراف السياسية المتناحرة والاحتكام إلى الشعب من خلال صناديق الاقتراع، كما تفعل كل الديمقراطيات في العالم الآن، والتي ستكون نتائجها معروفة منذ الآن، وهو وصول حزب الله وحلفائه إلى الحكم، كما سبق ووصلت حماس. وذلك هو مكر الديمقراطية في دول العالم الثالث.
السلام عليكم.