من المتوقع أن تأخذ سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية، منحاً دراماتيكياً، خلال المرحلة المقبلة، بعد إكتساح الديمقرطيين للانتخابات، وفوزهم بغالبية المقاعد بمجلسي الكونغرس والشيوخ. فأمام واقع تصاعد عدد ضحايا الجنود الاميركيين في العراق، وما نتج عن ذلك من تأفف وتشكي على مستوى الداخل الاميركي، كان لا بد من إيجاد استراتيجية جديدة، تضع حداً فاصلاً لهذا الإنغماس في الوحول العراقية من ناحية ، وتأخذ بعين الأعتبار المحافظة على ماء الوجه، لادارة بوش الحالية بشكل خاص، وللامبراطورية الاميركية بشكل عام، من ناحية أخرى. فكان أن استجاب الحزب الديمقراطي لهاتين الحاجتين، فاستفاد منهما، واستنفد كل جوانبهما خلال حملته الانتخابية المنصرمة،عن طريق تحويله هذه الانتخابات إلى ما يشبه الاستفتاء حول المسألة العراقية.

من بعدها وتماشياً مع هذا الواقع الجديد، أوكلت إدارة بوش إلى لجنة مؤلفة من خمسة ديمقرطيين، وخمسة جمهوريين برئاسة quot;جيمس بايكرquot; يعاونه quot;لي هاميلتونquot; السيناتور الديقراطي السابق، مهمة دراسة ما سمي quot;بالملف العراقيquot;، حيث أنه من المتوقع أن تنهي هذه اللجنة مهمتها، فتقدم اقتراحاتها في بداية السنة المقبلة. وتتركز أعمال هذه اللجنة على إقتراحين أو إحتمالين، أولهما إحتمال إعتماد استراتجية quot;الاستقرلر أولاquot;، وثانيها أي في حال فشل مسار الأول استراتجية quot;الإنسحاب والإنفاذquot;.

وترتكز إستراتيجية quot;الإستقرار أولاًquot;، على إقامة جو من الإستقرار في الداخل العراقي، أولاً عن طريق حث رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ،على التشدد أكثر في مسألة ضبط الأمن، ولا سيما بالنسبة للفصائل الشيعية المتطرفة، ومن ناحية أخرى على إقامة حوار مع الجارين، سوريا وايران، والتي ما زالت تعتبرهم ادارة بوش الحالية عدوين لدودين وتصنفهم في محور الشر المطلق. ولكن وبالرغم من ذلك، فلقد أعلن جيمس بيكر والذي كان يشغل منصب وزيراً للخارجية الأميركية على أيام بوش الأب، والذي يشكل في المرحلة الحالية خشبة خلاص بالنسبة لبوش الأبن،كما يشكل أيضاً همزة وصل فيما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فلقد أعلن إذاً، أنه لا بد من إقامة quot;حوار مع الأخصامquot;، إذا أردنا الوصول الى الاستقرار. ولقد لقي هذا الموقف صداً وتجاوباً لدى الرئيس العراقي جلال طالباني، الذي صرح بما معناه إن سوريا وإيران لهما حالياً اليد الطولى في كل ما يحدث في الداخل العراقي، لذا قد يكون ايضاً لهما اليد الطولى في تثبيت الاستقرار إن هما عمدا إلى ذلك. والجدير بالذكر هنا أن اعتماد خيار quot;الاستقرار أولاًquot; قد يسمح للقوات الأميركية بالبقاء في العراق دون وجوب دفع خسائر كبيرة مقابل ذلك، كما يحصل الآن.

أما بالنسبة للخيار الثاني أو ما يسىquot;بإعادة الانتشار والإنفاذquot; فهو يتركز على انسحاب القوات الأميركية إلى خارج العراق، أي إلى دول الجوار الحليفة، حيث يمكنها التعامل بشكل إنفاذي أي امتصاصي ومطاطي مع الداخل العراقي، من ناحية امكانية التحكم عن بعد بهذا الداخل، بهدف ضبط كل التيارات والمنظمات الاصولية،فالقضاء عليها دون التعرض لمحاذير ومخاطر ردودها. والأمر المتوقع حدوثه ضمن هذه الاستراتيجية، والذي من الممكن أن يساعد في خروج القوات الاميركية من العراق، هو مشروع اقامة العراق الفيديرالي، أي تنفيذ مشروع تقسيم العراق إلى ثلاث مقاطعات أو شبه دويلات اتنية ومذهبية. وقد يكون ذلك عن طريق تثبيت وضعاً قائماً حالياً، ولا سيما في منطقتي الشمال الكردي والجنوب الشيعي ،على أن يرتضي السنة بمنطقة الوسط .وهنا يأتي دور السلطة المركزية والتي سوف يطلب منها رعاية المصالح والشؤون المشتركة، خاصة تلك التي لها علاقة بتقسيم موارد النفط بشكل عادل، يرضي السنة كون منطقتهم الوسطى هي أفقر نسبياً من المنطقتين الأخريين من ناحية منابع النفط.

يبقى أن هذه الاستراتيجية، أي استراتيجية الانكفاء واعادة الانتشار مع تحفيز التقسيم، تشكل طابع سياسة الديمقراطيين. وإذ يؤكد السيناتور الديمقراطي السابق جوزف بيدن والذي هو حالياً أحد أعضاء لجنة quot;ملف العراقquot;،أن تقسيم العراق الى ثلاث مقاطعات قد يساهم بالحد من تفاقم الحرب الأهلية، عن طريق الفرز الذي من المحتمل أن يلي عملية التقسيم هذه، والذي قد يساهم في اعطاء فرصة جديدة للعراقيين من أجل إقامة حكم ذاتي لكل طائفة كما يناسبها، تراه يتناقض جوهرياً مع سياسة بوش ومساعده الحالي بيكر، اللذان سبق واعلنا عن قناعتهما حول امكانية خلق حروب أهلية جديدة quot;لم يشهد مثيلها التاريخ المعاصرquot; في حال تم تقسيم العراق.

في الحقيقة ان غالبية العراقيين يكرهون هذه الحرب الدائرة على أرضهم، والتي هي بنسبة ما غريبة عنهم، وقد تكون مستوردة لتصفية حسابات دول الجوار عندهم، مثلما كان حاصلاً في لبنان وما زال . ولقد رفضوا بغالبيتهم مشروع توحيد العراق وعودته الى حالته السابقة. ففي انتخابات كانون الأول 2005 ،صوت الشيعة للشيعة، والكرد للكرد، والسنة للسنة، مع بقاء لهامش نسبة 10%؟من المتحفظين عن هذا الفرز الطائفي. والدستور العراقي والذي أقر بنسبة 80%هو بمثابة خارطة طريق للتقسيم المتوقع.أما البرلمان العراقي فلقد أقر في 11\10\2006 قانون اقامة الدولة العراقي الفدرالية، والذي يحدد مهلة ثماني عشر شهراً لتنفيذه، تماشياًً مع رغبة السنة لاعادة درسه، انطلاقاً من معارضتهم لبعض بنوده.

وإذ تعتبر إدارة بوش الحالية أن انسحاباً من العراق هو مشروع فائق الخطورة، إن حدث في غياب التنسيق والحوار مع دول الجوار، من حيث أن هذه الول قد تسعى لملىء الفراغ الحاصل، إلا أن حواراً من هذا النوع، يحتم تنازلاً من قبل الطرفين كما يحدث طبيعياً في مجرى كل حوار. فبالنسبة لسوريا فلقد حددت مطالبها للمبعوث الذي زارها من من قبل طوني بلير، والتي تتمحور حول اغلاق ملف اغتيال الحريري، فاستعادة نفوذها في لبنان، وأخيراً وفي ذيل المطالب استعادة الآراضي المحتلة في الجولان. وهي بالمقابل تعرب عن استعدادها للتخلي عن دعم حزب الله وحماس، والكف عن التدخل في العراق.أما إيران فهي تطلب مقابل تخليها عن متابعة برنامجها النووي المحافظة على المكتسبات الحالية ولا سيما العلمية منها والتي تستخدمها لاغراض سلمية حتى الآن. وبالمقابل تطالب بتثبيت هيمنتها على جنوب العراق حيث تقيم حالياً نظام الشريعة الخمينية.وهي إذ تؤكد على نواياها في تهدئة الأجواء في المناطق التي تسيطر عليها، تعد بمراعات وحماية قوات التحالف من التعرض لاي اعتداء.

وفي حال رضخت ادارة بوش الحالية لرغبة بيكر واقامت هذا النوع من البازار، قد يعني ذلك تحول الولايات المتحدة وقوات التحالف من بعدها، الى شبه رهائن لدى الجمهورية الاسلامية الإيرانية، ناهيك عن البلدان العربية المجاورة للعراق ولا سيما السنية منها. ان سلة الطروحات من أجل الحلول، والتي قدمها علي لاريجاني للمبعوث السوفياتي ايغور ايفانوف، تتوج ايران سيدة المنطقة المطلقة، ويصبح تخليها عن برنامجها النووي مستقبلاً أمراً طبيعيا،ً لعدم حاجتها اليه، في ظل هيمنتا الفعلية على المنطقة العربية بشكل تام.

وفي حال تقدم استراتيجية quot;الاستقرار أولاًquot;،عبر النموذج التوافقي وما سمي quot;بالحوار مع الأعاءquot;،تتزاحم لدى المراقب جملة أسئلة مقلقة أهمها:
- كيف السبيل للتوفيق بين الابقاء على البرنامج النووي الإيراني وان بمراحله الاولى في ظل مناهضة ورفض المجتمع الدولي لكل اشكاله ومراحله؟
- كيف السبيل الى الأستقرار المنشود والعرب بشكل عام، والدول الاسلامية السنية حكاماً وشعوباً بشكل خاص،تتوجس من تنامي النفوذ الفارسي بجوارها؟
- وهل من الممكن اغلاق ملف اغتيال الشهيد رفيق الحريري على زغل، وبشكل يندى له الجبين خجلاً،بعد أن قطع المجتمع الدولى هذا الكم من الوعود من أجل كشف المجرمين وسوقهم الى العدالة؟
- وهلا يوجد تناقض فيما بين احتمال تخلي سوريا عن مساندة ودعم حزب الله، فيما تتمسك به ايران كونه يشكل الامتداد الجيوسياسي الطبيعي لنفوذها الشرق اوسطي.؟
- وأخيراً كيف السبيل لإسكات مواطني وأهالي الجولان المحتل في حال تخلي سوريا عنهم مقابل استعادة نفوذها في لبنان؟ وهل يرضى اللبنانيون بذلك بعدما أُتخموا بالوعود والكلام المعسول، من قبل الولايات المتحدة بالذات؟
كلها أسئلة برسم مخططي استراتيجية quot;الاستقرارأولاًquot; . وللتذكير وأخذ العبر نشير إلى فشل حملةquot;نشر الديمقراطيةquot;سابقاً، بسبب تخطيها لإرادة الشعوب. فهل يشكل ذلك رادعاً كافياً quot;للديمقراطيات العظمىquot; يقيها من الوقوع بالمطبات والمهالك ذاتها؟
مهى عون

كاتبة وباحثة سياسية لبنانية

[email protected]