القسم الثاني
الذاكرة التاريخية العراقية
ينبغي ان اوضح في هذا الباب بعض ملاحظاتي النقدية، اذ لا يمكن لكائن من كان ان يعبث بذاكرتنا التاريخية العراقية.. وهي التي يقف على رأسها نخبة من المختصين العراقيين، فمن ليس له باع في تاريخ العراق الحديث خصوصا من ساسة وفنانين وباعة كلام، عليه ان يكفّ عن ترديد الاسقام وتوزيع الاراء في تاريخنا:
1/ معاهدة 1930 العراقية ـ البريطانية:
في الحلقة التي عرضت ليلة 29 سبتمبر 2006، قال احد الضيوف بأن الحركة السياسية في العراق قد انشقّت اثر معاهدة 1930 بين العراق وبريطانيا التي مهدت لاستقلال
القسم الأول |
2/ فخ الاسقاط
ولقد نجح الاوائل نجاحا منقطع النظير في توظيف الذاكرة التاريخية العراقية لبناء جيل مثقف وقوي وناضج.. وجرى في الحلقة نفسها تلك الفصل بين فنان السلطة وفنان الشعب.. ومرة اخرى يقع رهط من العراقيين في فخ الاسقاط.. انهم يسقطون تجربتهم المريرة في العقود الاخيرة من هذا القرن على القرن العشرين بطول عقوده كلها.. فأنا أسأل: الى أي مدى كان هناك تضييق من قبل الدولة على الفنانين؟ بل وتجرأ احدهم لينال من الفنان الكبير حقي الشبلي عندما اتهم بأنه كان يخدم مصالح الدولة من دون ان يسأل نفسه ويجيب على السؤال التالي: هل كان الشبلي حقا مثقف سلطة.. ام انه كان يمارس دوره من خلال منصبه؟ واذا كان قد مارس دوره عميدا للمسرح العراقي، فهل وظّف فنه في خدمة السلطة والنظام؟ اننا نحن العراقيين لم نفرق حتى يومنا هذا بين quot; الدولة quot; و quot; النظام quot; و quot; السلطة quot; و quot; المجتمع quot;.. هناك خلط مبهم في المفاهيم، وهذا ما اجده في عموم الثقافة العربية المعاصرة.. وهنا تكون الطامة الكبرى في توزيع الاحكام بناء على سوء المفاهيم في الاذهان! ولما كان ذلك العهد الملكي برغم خلافنا مع سياسات السلطة، عهدا منفتحا وقد اطلق العنان لمزاولة تأسيس الفرق والجمعيات والمنظمات والاتحادات والنوادي وما كان يتيحه القانون وما يتضمنه الدستور.. فان الجيل العراقي الذي تربى على العهود الثورية منذ خمسين سنة لم يدرك طبيعة النظام المنفتح وابجديات الاساليب الليبرالية في ممارسة الفن والثقافة والاعلام وحتى مناورات السياسة والاعيبها.. اذ وجدنا ان نسوة لهن مكانتهن في المجتمع طبيبات ومعلمات ومحاميات يمثلن ادوارا مسرحية، وان رؤساء وزارات قد اشتركوا في تأليف مسرحيات.. بل ووصل الامر الى ان يحضر رئيس الوزراء ياسين باشا الهاشمي الى المسرح..
3/ العراق والايديولوجيات
وانني اتفق مع الضيف الذي قال بأن الدولة كانت تحاول ان تزرع نواة للمسرح، ولكنني اخالفه عندما قال بأن المسرح كان مسرح افكار تترجم الايديولوجيات الحزبية! وأسأله: هل كانت في العراق عند مطلع الثلاثينيات ثمة احزاب عراقية مؤدلجة؟؟ هل كانت في العراق نخبا راديكالية واسعة ولم ينبثق الحزب الشيوعي العراقي مثلا الا في العام 1934 - 1936 بعد ان ولد الحزب الوطني الديمقراطي في العام 1933؟ وحتى القوميين، فلم يتبلور حراكهم السياسي بعد عن مؤدلجات وتنظيمات سياسية الا بعد الحرب العالمية الثانية، اذ بدأت التجمعات القومية في الثلاثينيات عن جمعيات ونواد كالمثنى والجوال!
4/ المسرح محاكاة للواقع
لقد تنافرت وجهات النظر كعادة العراقيين عندما يتحاورون، ففي تقويم مسرحية (طعنة في القلب) التي كتبها سليم بطي وعرضت عام 1936 مسرحية واقعية تنافر الضيفان حولها وحول مضمونها بالكشف عن دور امرأة في علاقة مفضوحة مع رجل، فالاول وصفها بأنها جزء من الواقع، في حين رد الثاني عليه كونها ليست جزءا من الواقع.. برر الاول حكمه نظرا لأن المسرحية عرضت صورة واقعية عن المرأة في حين عدّ الثاني تلك الصورة استهانة بالمرأة!!
نقدات من نوع آخر
من هذا الخور في الجدل نجد انفسنا امام خور لغوي سقيم عندما يقول احد الضيوف في الحلقة التي عرضت يوم 1 اكتوبر: quot; ان العراقيون..quot; من دون ان يدري ما تفعله ان؟، بل ومن المفجع ان يتكلم فنان عراقي يستلزم انه يحمل ثقافة معينة من دون ان يعرف من هو الشريف محي الدين حيدر وهو الموسيقار الشهير الذي اثرى الحركة الموسيقية العراقية باهم الادوار وكان مؤسسا للفرقة السيمفونية العراقية.. وأسأل: ان سّمى حقي الشبلي فرقته باسمه فما الضير في ذلك؟ لماذا تنتقدوه؟ وبمعزل عن كونه عميدا للمسرح العراقي او ابا روحيا له، فلقد كان ذلك عرفا لا شائبة فيه في مصر خصوصا نشهد انطلاق فرق مسرحية ابان العهد الملكي وهي تتسمّى باسماء مؤسسيها، مثل: فرقة الريحاني وفرقة جورج ابيض وفرقة يوسف وهبي وغيرها من الفرق التمثيلية.
المسرح المدرسي والجامعي
وبالرغم من تأكيد بعض الضيوف الحاذقين على دور المسرح المدرسي بالعراق ايام العهد الملكي، الا اننا لم نجد أي ذكر لمسرح الثانوية، اذ شهدت الاربعينيات حركة نشيطة في المسرح المدرسي في ثانويات العراق الشهيرة ببغداد والموصل والبصرة، بل ينبغي ان اسجل هنا ـ مثلا ـ للتاريخ ان الثانوية المركزية بالموصل التي بنيت منذ العام 1908 ndash; 1909 بتبرعات اهالي المدينة وليس بانفاق من الدولة العثمانية (وهي الثانوية الشرقية اليوم) بنيت الى جانبها قاعة كبيرة مع مسرح شهدت خشبته تمثيل مسرحيات لا تعد ولا تحصى على مدى قرابة مائة سنة من اليوم.. بل وفات البرنامج ان يلقي بعض ضيوفه الضوء على المسرح الجامعي منذ الاربعينيات، اذ قرأت ان كلية الاداب ببغداد قد دأبت منذ تأسيسها على تشكيل فرقة مسرحية كانت تقدم عروضها منذ نهاية الاربعينيات ومن ابرز الذين مثلّوا فيها الممثل الشهير سليم البصري خريج قسم الفلسفة بكلية الاداب والعلوم جامعة بغداد.
روعة الاربعينيات واستقطاب الخمسينيات
ومن عظمة عقد الاربعينيات ـ كما ذكر احد الضيوف ـ كثرة ما تشكّل من فرق مسرحية وجماعات فنية عراقية في بغداد وبقية مدن العراق المهمة.. ومن كثرة الاقبال والانتاج استخدمت المقاهي والملاهي امكنة لتقديم العروض. ويصل الاستقطاب مداه وذروته في عقد الخمسينيات لدى ثلاثة من الفنانين العراقيين، هم ابراهيم جلال وجعفر السعدي ويوسف العاني، فلقد انبثقت كل من فرقة المسرح الشعبي التي لم تعتمد سياسة المواجهة مع الدولة، وفرقة المسرح الفني الحديث التي بدأت تثير بمواقفها المعارضة النظام السياسي.. ثم فرقة المسرح الحر التي اسسها الفنان جاسم العبودي.. ويعلق احد الضيوف قائلا بأن هذه الفرقة كانت تنفّذ وتطبّق ما تريده منها جهة معينة، وهو يقصد بهذه الجهة الحزب الشيوعي العراقي. وبدأت مدارس المسرح العالمي تجد نفسها ببغداد وقد غلب على الفنانين العراقيين الطابع اليساري، بل وكان بعضهم قد انخرط بالتنظيم الشيوعي.. وفي هذه الحلقات من البرنامج ينّصب الاهتمام كله على بغداد من دون أي ذكر لمسرح المحافظات الذي خصص له حلقة يتيمة واحدة لم تغطيه ابدا ولم تحلل انشطته الذاتية. ولكن في الحلقة التي بثت يوم 3 اكتوبر، اخذ الضيوف يضخمون من حجم النضال الوطني، وبدا انه منحصر لدى الشيوعيين العراقيين وحدهم.. بل وردد البعض الاسطوانة القديمة التي يقوم مضمونها بتزييف الحقائق وخلط الاوراق.. ذلك ان الحكومة أخذت تلاحق المتنورين والمثقفين ابان الخمسينيات! وهذا تلفيق تاريخي لا يمكن قبوله ابدا، اذ اعتقد ان الخمسينيات والستينيات هما العقدان اللذان وجد المثقف العراقي ذروته فيهما، بل وكانت هناك صلة حقيقية بين الدولة والنخب المثقفة بعيدا عن ملاحقة السلطة للسياسيين المعارضين.. اما ان نأتي لنطلق احكاما جائرة ان هناك ملاحقة للمتنورين والمثقفين.. فمن سيبقى اذن؟ من كان يكتب في الصحف؟ من كان يبدع في الفن؟ من كان يبرز في النتاج الادبي؟ من كان يقدم المسرحيات في فرق عدة؟ من قام بتشكيل جماعات الفن؟ انه تشويه حقيقي متعمد او ساذج كان ولم يزل مستمرا من دون منح كل ذي حق حقّه! ثم كيف يصف احد الضيوف ثورة او انقلاب 14 تموز 1958 بالواقعية الاشتراكية؟ انها انقلاب عسكري في البداية، ثم لحقت بها ثورة اصلاحية بورجوازية لا يمكن وصفها بالثورة الاشتراكية ابدا! ذلك ان الزعيم عبد الكريم قاسم لم يقم بتأميم أي مرفق من مرافق الحياة الاقتصادية العراقية!
تنوع المدارس والاتجاهات المسرحية العراقية
انعقد في العام 1966، اول مؤتمر يعني بالفنون الجميلة ومنها المسرح، وعدت فترة الستينيات ازهى فترة وصل اليها العراق وخصوصا عندما رجع الفنانون العراقيون من اوروبا والاتحاد السوفييتي وامريكا الى العراق، وهم يحملون معهم تجارب قيمة.. كان كل من حقي الشبلي قد حمل تجربة مصرية فرنسية، وحمل يحي فايق وابراهيم جلال وجعفر السعدي تجارب امريكية، وعاد قاسم محمد بتجربة روسية.. اما عوني كرومي فكان صاحب ثقافة المانية.. في الستينيات قدمت اروع المسرحيات العراقية المتقدمة.. وغدت الحياة الفنية المسرحية العراقية خلية نحل تعج باعمال دائمة وثابتة ومبرمجة ومخطط لها.. وساهم معهد الفنون الجميلة مع الاكاديمية فخلقا قوة لا تضاهى فانتجت ذلك الجيل المسرحي الجديد الذي كان وراء ازدهار المسرح لما بعد العام 1960.
مرحلة الازدهار: تطور المسرح العراقي
بعد مرحلة الرواد الموصليين، وصل المسرح العراقي الى ذروته على ايدي نخبة ممتازة من المخرجين والممثلين الفنانين: حقي الشبلي ويحي فائق وابراهيم جلال وجعفر السعدي ويوسف العاني واسعد عبد الرزاق وبدري حسون فريد وخليل شوقي.. في حلقة يوم 5 اكتوبر تتوضح الصورة عن قيمة ما وصل اليه المسرح العراقي في الستينيات، مما اضطر الى اصدار قانون الفرق التمثيلية لعام 1964، وتأثير مخرجات اكاديمية الفنون الجميلة وانبثاق فرقة المسرح الفني الحديث عام 1967،ووصول المسرح العراقي الى ذروته في (النخلة والجيران) للروائي المعروف غائب طعمه فرمان وتنوع مدارس المخرجين العراقيين، اذ حمل كل واحد منهم نتاج مدرسته الاجنبية لتأسيس مدرسة عراقية لم تكتمل مع كل الاسف لأسباب سياسية وتاريخية.. انها مرحلة قاسم محمد وعبد المرسل الزيدي وسامي عبد الحميد والصديقين نور الدين فارس وعوني كرومي.. وستكتمل في السبعينيات والثمانينيات مع عزيز خيون وفاضل خليل وفخري العقيدي وعبد المحسن العزاوي وسليم الجزائري (التأثر لدى الاخير بالمسرح الجيكي) وصلاح القصب وعلي الشوك وسعدي يونس (التأثر لديه بمسرح البوليفار الفرنسي) وعبد الوهاب الدايني وجواد الاسدي وبيتر فايس (التأثر لديه بالمسرح التسجيلي الوثائقي) ومحسن العلي.. وغيرهم.. مع نضوج الفرق التي خلقت بينها روح المنافسة وبدأ المسرح القومي يستقطب الجميع..
وكم كنت اتمنى ان تخصّص حلقة او اكثر من البرنامج للاخراج المسرحي العراقي اذ اعتقد ان تشكيلة هذا quot; الموضوع quot; كان لبنة اساسية لمدرسة عراقية في المستقبل الذي اطل بشبحه المظلم مذ اندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية في العام 1980. وحلقة خاصة بالممثلات العراقيات اللواتي لعبن دورا فنيا مهما في الحركة المسرحية وتاريخها وثقافة العراق الحديثة.. لقد اعجبني ما قاله المخرج الفنان فاضل خليل: كنّا اشبه بالعائلة لها طقوسها ولها محبتها.. نعم طقوس اجتماعية في كل يوم خميس كنا نجتمع في بيت واحد او نشترك في سفرات.. كنا عائلة واحدة والاحترام الكبير بيننا هو الاساس في نجاح العمل المسرحي العراقي ابان الستينيات لم نشعر بغربة نحن ابناء المحافظات في بغداد كانت الطمأنينة والاحساس المشترك يجمعنا. فكانت الاسرة الواحدة تسهل العمل الفني ويفتح الاب الباب لابنته والزوج لزوجته..
هذا القول يترجم تاريخا طويلا في الثقافة العراقية الحديثة التي اعتقد انها توقّفت عن النضوج في العام 1979 برغم استمرارها حية ومنتعشة.. ذلك ان سر ابداع العراقيين عندما يتوحدون على هدف معين في التحضر والتجديد.. ان سر نجاحهم في قوة تشكيلاتهم النهضوية والثقافية والحضارية وان سر تفرقهم وبعثرتهم وتشرذمهم يكمن في بشاعة تشكيلاتهم السياسية والحزبية والايديولوجية والطائفية والعرقية..
المسرح المحلي: المحافظات العراقية
لقد خصص البرنامج حلقة واحدة لمسرح المحافظات وأجدها قليلة لا تفي بالغرض ممّا غّيب اسماء وفرقا واعمالا ومنتجات سواء في الموصل ام البصرة ام اربيل ام كركوك ام الحلة ام ديالى.. ولقد شهدت مثل هذه المدن حركات مسرحية محلية لا تضاهى بغداد، ولكنها بنفس الوقت لم تتطور ولم تستحدث فيها اية تقنيات.. ويمكنني تسجيل بعض التصويبات والملاحظات على بعض ما قاله الضيفان في حلقة يوم 20 اكتوبر، منها:
1.ان الاستاذ يحي قاف كان مديرا للمدرسة القحطانية في الموصل لأكثر من مرة، ومنها في سنوات 1960 ـ 1963 فالاخ حسب الله لم يتذكر تلك السنوات، وقد كنت ايضا احد تلامذة يحي قاف الاوائل وكان قوي العبارة بليغ الكلمات يهتم بصناعة الانسان ويخاطب عقله من خلال فنه المسرحي.
2.صحيح ان الفنان احمد سالار له فضل على الحركة المسرحية في كردستان.. لكنه نجح في تقديم الفولكلور الكردي وعرض نتاجه باللغتين العربية والكردية معا.
3.أخطأ أحد ضيوف الحلقة عندما ذكر نص العبارة: quot; قبل الحرب العالمية الاولى لا يوجد مدارس في العراق كانت هناك كتاتيب.. quot;! ويبدو انه لم يقرأ تاريخ العراق الحديث ولم يقرأ عن المدارس الاهلية والمدارس العثمانية والمدارس الرشدية في العراق وكلها مدارس مدنية لا كتاتيب دينية.. ولم يعرف هذا الضيف ان كلية الحقوق العراقية قد تأسست في بغداد منذ العام 1908، وكانت هناك ثانويات في امهات المدن العراقية.. وليعلم ايضا بأن مدارس البنات قد تأسست قبيل الحرب العالمية الاولى!
4.فرقة الرواد الشهيرة لم يذكرها احد مع الاسف، وهي فرقة عاشت طويلا في الموصل وتضم فريقا رائعا من الفنانين واشرف عليها الفنان المخرج شفاء العمري وقدمت اعمالا مهمة في السبعينيات كما اذكر.
الثمانينيات: زوال الارادة والتفكك وتفاقم الموبقات
بدت الثمانينات بـ 25 فرقة مسرحية تعمل في بغداد والبصرة والموصل واربيل والسليمانية.. وفي الحلقة التي بثّت يوم 11 اكتوبر، وجدت نفسي امام ضيف يريد ان يبعدني قسرا عن الواقع بكلام لا معنى له واستعراض انشائي واستخدام مصطلحات لا مجال لها: المؤسسة الثقافية خزين من الاغواء / الانفجار البترولي / اغواء الذات للاخر / محفزات / محتشد / لغة التعقيل / لغة التخييل / التنميط / آليات تفجير / الاجتراحات المؤسساتية / تراكميات المخرج / معرقل معرفي / تنميط تجريبي / اداء بنيوي / تفجير الحواس.. الخ من اشاعة كلام لا تفهمه الناس! ولكن سمعت ايضا من ضيف آخر عن دور المثقفين كونهم اول المستشعرين بخطورة الحرب ودور النظام السابق في السيطرة على المثقف.. ودور المحاذير وان ضابط الامن في الوزارة يراقب الانفاس او ان يأتي ذلك من فنان بايع نفسه! وبداية المسرح التجاري وولادة الاسفاف والتدني مع مسرح للطفل وبعد العام 1985 دخلت عناصر غير فنية لتشوّه صورة المسرح العراقي واستمروا الى التسعينيات.
وقفة تحليلية لحلقة 12 اكتوبر
اعجبني في الصديق المخرج الدكتور شفيق المهدي ضيف حلقة 12 اكتوبر صراحته وجرأته ووضعه جملة هائلة من النقاط على الحروف.. قال: اصبح الفنان المحترف داخل صندوق الدولة اذا لم يمش على ما تريده الدولة يقطع رزقه.. وثمة مسرح حرب ومسرح تجاري لم يكن فيهما ابداع ابدا.. وان مسرحية المسرح العسكري لا تمت الى مضمون المسرح العراقي بصلة وان اغلب اعضاء المسرح التجاري زحف من قاع المدينة.. وان كل السلطة السابقة بثقلها لم تستطع ابدا من اختراق اكاديمية الفنون الجميلة.. ولقد بدأت مرحلة الاضمحلال اذ اخذت تنتهي الفرق المسرحية بين عامي 1987 وحتى العام 1992.. ولقد عبر مسرح البانتو ماين والصمت الموسيقى منذ 1984 عن دراما الاضمحلال بالحركات فان البوابين صاروا وزراء وضربت النكسة المسرح العراقي عدا الحرب بانحدار الفنون.. وانحدرت ثقافة الطفل انحدارا مخيفا ونال من القسوة الفجة ما جعلة في تمرد على طول الخط من دون أي تربية متسامية تفتح له ابواب الحياة والعالم.. لقد تحول الطفل الى عبد واصبح القائد الها واحد! (استطيع القول ان اطفال الامس اصبحوا اليوم شبابا يعبثون في طول البلاد وعرضها) ولقد حضر الرئيس صدام حسين مسرحية العطش والناس في بادرة لم يفهم مغزاها ابدا وهو القائل: الفنان كالسياسي كلاهما يصنع الحياة وان الفنان ابراهيم جلال قد تبنّى هذا الشعار ولم يكتف بتسويقه، بل بتطبيقه وجعل الموت يتقّدم ويعلق الصديق الاخ شفيق بقوله: انه شعار للسخرية واساءة للفنان، فالفن يتقدم على السياسة!
وقفة تحليلية لحلقة 13 اكتوبر
لقد كان المسرح العراقي ممثلا بالفرق الاهلية ولم يستفد ابدا من أي انتعاش اقتصادي استفاد منه البلد، وكان الاعضاء يصرفون من جيوبهم وبالرغم من ذلك، فلم يكن هاجس أي فرقة المردود المالي مقارنة بالابداع الرمزي.. ولا ادري كيف يعتقد البعض بأن ثمة استقرار نفسي قد عاشه المجتمع العراقي في فترة السبعينيات وفيه قصر النهاية وناظم كزار.. ولكن التسعينيات اصاب الخراب كل مرافق حياة العراق وخلقت طبقات طفيلية من خلال مسرح التهريج خصوصا بعد غلق الملاهي، فانتقل التسطيح الى المسرح، وخلا من الحكمة واسترخى الجمهور في القاعات المبردة وهو يستمتع بالنكتة السمجة والاسفاف العامي وفساد الذوق العام. ولقد اعجبتني حقا اقوال الصديق الاستاذ الناقد حسب الله يحي الذي تميّز هو الاخر بشجاعته في تحليل الواقع والتعمق في اسباب الاضمحلال وحالات الخراب.. لقد عمدت السلطة الى تسييس الثقافة فخلقت انحدارا بشعا ورداءة واسفافا اساء الى الذوق العام.. بل ولقد ارادت السلطة ان تستخدم الفن والمسرح وسيلة تعبوية للناس على الغلظة والحرب والمجابهة.. ـ على حد قول الاستاذ حسب الله ـ
في الحقيقة، لم اكن موجودا في العراق لاشهد بنفسي ذلك المهرجان الدموي الذي عاشه العراقيون بكل كوارثه ومآسيه حتى وصفت تلك الحرب البشعة بحرب سلطات وحكام وليست بحرب وطنية حقيقية، علما بأن القناعة قد ترسخت في وجدان العراقيين انهم يحاربون بديلا عن العرب في مواجهتهم ايران وامتداداتها المخيفة. في خضم ذلك المهرجان المؤلم كان المسرح يضج بالحياة ويصر العراقيون على الحياة، وبقي التواصل مع الجمهور المسرحي حيا.. مع تناول موضوعات خفيفة الظل وفيها طعم فكاهة من دون وجاهة.. ولكن الانحدار بقي يسير ليعلن نفسه من سيئ الى أسوأ ، فلقد نال الخراب من المثقفين العراقيين وخلقت طبقة طفيلية جديدة في الثقافة والمجتمع معا مع انحرافات بالغة الخطورة لتصفيق الفنانين في المهرجان، اذ ليس لهم خيار آخر من اجل لقمة العيش وجاء التسطيح وخلت الحكمة ومات الابداع واسترخى الجمهور للنكتة السمجة والاسفاف في التعابير! وفي خضم كذاك تعرض مسرحية كلكامش التي تقدّم دكتاتورا بصيغة تاريخية، ولكن لم يعد التيار يتوقف لمسرح بات هزيلا بعد ان بناه رجال خبرة وكفاح ومعرفة وفن.
وقفة تحليلية للحلقة 14
يبقى الناقد حسب الله يحي يحلل ذاك المنحى الخطير في حياة المسرح العراقي الذي كان في ما سبق من ايام زمان يستضيف النقاد قبل العروض واعتماد المنافسة، وكان للمسرح العراقي مجلته الشهيرة (مجلة السينما والمسرح) التي كان يتلقفها القراء نظرا لخصب مضامينها وجودة اخبارها ورصانة مقالاتها وكان يرأس تحريرها الصديق الشاعر زهير الدجيلي وكان من ابرز كّتابها الصديق الناقد جاسم المطير.. وكنت قد اطلّعت على اعداد منها فوجدت كم كان دورها كبيرا في اشاعة ثقافة تقدمية في الحياة العراقية الحديثة. وكان ان تأسس منتدى المسرح، فقام بدور رائع في رعاية الاعمال المبدعة وتقديم اساليب جديدة وتوجهات شكلية متقدمة.. وكان الصديق الراحل المخرج عوني كرومي هو الوحيد الذي قدّم مسرحية وحيدة يدين مضمونها الحرب الكارثية الطويلة مع ايران، وذلك في العام 1984. واذكر ان من ابرز النقاد في الحركة المسرحية العراقية: احمد فياض المفرجي وعبد المرسل الزيدي وسعاد محمد خضر والدكتور عمر الطالب والدكتور جميل نصيف والدكتور علي الزبيدي وحسب الله يحي وزهير الجزائري وثامر مهدي وياسين النصير ولطيف حسن وغيرهم (وعذرا لمن لم اذكر اسمه) واغلبهم عد منتدى المسرح عمودا فقريا لعقدين زمنيين كاملين، اذ كان لدوره الحقيقي في الحركة المسرحية التي صاحبتها حركة نقدية واسعة مثلها نقاد مهرة كالذين ذكرنا اسماءهم في اعلاه.
التسعينيات: انهيار العراق
العراق يعيش اقسى مراحله مقارنة بما مرّ عليه من مراحل في القرن العشرين.. انه نتاج تاريخي حقيقي لما عاشه ابان الثمانينيات بحيث بدأ الفساد يعم المؤسسات، واخذ الوباء ينخر عظام المجتمع وبدأت الدولة تزيد من قيودها على المجتمع الذي بات يتفكك شيئا فشيئا نتيجة ما حل به من كوارث الحرب لمرحلتين، وبدأ البترول يهّرب او تستخدم كوبوناته لشراء الذمم وسيطرت طبقة طفيلية جديدة مؤلفة من عصابات لا تعرف غير النهب.. وزادت الهجرة وعمّ الجوع وازداد عدد المشوهين والمنحرفين.. وافتقد مشروع الدولة ثانية في ان يكون حاضنة للابداع والمبدعين.. واحتار الناس وخاف الناس وغاب الالتزام بضرورات المجتمع والحياة وغدت السلطة كائنا خرافيا بشعا..
في ظل هذا الوضع ولدت لجنة المسرح العراقي لتدعم المسرح الجاد من جد وجديد، ولكن بدا التفكك واضحا مع ذبول الكلمة القوية واصبح الفنانون جميعا في العراق برهان السلطة، وكان هناك التصفيق ولكن بدأ البعض يهرب نحو الغموض والتجريبية العالية.. دخل منتجون لا علاقة لهم لا بالثقافة ولا بالمسرح وجل ما يقدمونه هو لهو وتهريج. لقد لجأت الفرقة القومية الى التمويل الذاتي لكنها بدأت تنتج عروضا سخيفة وحل التمويل الذاتي لكي يجني صاحبه الربح.. لقد انزوت الاسماء الكبيرة وهاجر العديد من الكبار بعد تهميشهم.. وابقى البعض علاقته بالسلطة نظرا لارتباطه بها حتى وهو في خارج العراق مما شكّل علامات استفهام قوية حول ذلك! وانني اخالف احدى الضيفات الفنانات بقولها: في الفترة السابقة كان الفنان دائما يتحدّى (الحلقة رقم 12)، واعتقد ان هذا محض مبالغة لا يمكننا ان نجد أي فنان عراقي يتحدى السلطة البتة في العهد السابق!
علما بأن هناك بعض العروض المسرحية التي حوربت في تلك المرحلة وتبلورت بعض الاسماء الجديدة ابان التسعينيات.. كان الخواء قد سيطر على كل الحياة الثقافية العراقية داخل العراق وبدأ العراقيون يحلمون بالتغيير وبأي وسيلة كانت. ولما دخلت المسألة العراقية بعدا آخر اثر دخول العالم في قرن جديد.. بدأت تلوح في الافق علامات ذلك التغيير الذي لم اجد أي عمل يتنبأ بما سيحصل!
ملاحظات أخيرة
في الحلقة 21، راقبت ما قاله الضيوف وسجلت بعض ملاحظاتي النقدية:
هل المسرح العراقي هو الشعب العراقي ـ كما قال احد الضيوف ـ؟ ام انه وليد الشعب العراقي ـ كما وصفه ضيف آخر ـ؟ وقال ضيف آخر بأن ثمة ثغرات سياسية في المسرح العراقي وان المسرح العراقي بدأ مثقفا سياسيا فهو ليس على غرار المسارح العربية.. لقد ولد المسرح العراقي سياسيا وانه لم يسّيس! وهنا اسأل الاستاذ يوسف العاني: هل هذا بصحيح؟ متى ولد سياسيا؟ انه قد اصابه التسييس ليس من قبل الدولة، ولكن من قبل الحزب الشيوعي العراقي بفعل انتماء بعض الممثلين والفنانين العراقيين لذلك الحزب، وانهم كانوا من الشيوعيين ولا عيب في ذلك. وايضا اعلّق على ما قاله الفنان العاني بأن المسرح العراقي بلغ المستوى العالمي عندما وصفه بمسرح عالمي! وانا اخالف الرجل، فليس معنى تقديم عروض في مناطق معينة في العالم وباللغة العربية انه يصبح يكتسب الصفة العالمية! اعتقد ان المبالغة في غير محلها.. وكم كنت اتمنى ان يتطور المسرح العراقي ليقدم عروضا باللغات العالمية ويحصل على تقييمات عالمية.. ولكن هذا لم يحصل، ليس للعراق وحده، بل لكل المسارح العربية المعروفة. ومع كل ذلك، فلقد نجح المسرح العراقي قبل غيره في تقديم مسرحية لجيكوف قبل أي مسرح آخر، قدمه وهو في ظروف صعبة جدا.
وأخيرا: السقوط.. الاحتلال
لقد كان الثمن باهضا لدى العراقيين بحيث سقط النظام وسقطت معه مؤسساته في عموم العراق واحتل الامريكيون العراق لكي تتفاقم المشكلات بشكل مخيف ومن جملة المآسي العراقية احتراق مسرح الرشيد الذي شكّل كارثة ليس اقل منها ضياع الارشيف العراقي لكل من الاذاعة والتلفزيون والسينما! لقد بدأ فصل تاريخي جديد اخذ العنف يزداد يوما بعد آخر، واخذت موجة العنف تطال الفنانين وتربعت في السلطة الجديدة فئة ليس لها أي اهتمام لا بالمسرح ولا بالثقافة الفنية واستعصت مشكلات لا حصر لها في العراق.. ولم يعد العراق يعرف الا موجات القتل والخطف وانقسام المجتمع وسيطرة المحتل وتزييف المعلومات والمحاصصة على المواقع وذبول الوجه الثقافي.
لقد مات المسرح العراقي منذ 2003 ndash; 2006 في الداخل، ولكنه شارك في بعض المهرجانات بعيد نقلته الى الخارج ليعّرف العالم بأن للعراق الوجه الثقافي وليس له أي وجه دموي.. انني اعتقد بأن تاريخ المسرح العراقي قد انتهى مع السقوط والاحتلال.. ويعيش الفنانون العراقيون اليوم قمة المأساة وخصوصا في ظل اوضاع أمنية مزرية، فضلا عن كونهم يتعرضّون للسخرية والتهكم والتهميش من قبل الملالي والقوى الدينية.. ان الفنان والمسرح يعيشان اليوم ازمة قاهرة في العراق.. والفنان لا يعرف ماذا يقول خوفا من التأويل! وان الجيل القديم لا يمكنه اليوم ان يبقى رهين الماضي.. اما الجيل الجديد، فينبغي ان يمضي قدما من أجل تأسيس جديد لمسرح عراقي جديد في القرن الواحد والعشرين. فهل سينجح يا ترى؟ وهل باستطاعته ان يجد الظروف الملائمة لاعادة انتاج نهضته وبناء مستقبله؟ وهل سيبقى العراق بكل خصائصه.. ام سيعبث به الزمن القادم؟ هذا ما ستجيب عنه العقود المقبلة من السنين!
التعليقات