يكاد المشهد العراقي اليوم، يٌختصر بمنظرين أثنين: الأول بٌرك الدماء الناتجة عن أعمال العنف الطائفي وتصفية الحسابات المذهبية بين الشيعّة والسنّة( مكونيّ الأمة، العدوّين حتى قيام الساعة)، وبقايا مفخخات محروقة تمزق كل يوم أجساد العشرات من المدنيين العراقيين الأبرياء، من تلك التي يٌمررها الأشقاء( تصنيعاً وتجهيزاً، ومع الكادر البشري المدرب طبعاً!) عبر حدودهم لتقديمها كهدايا للشعب العراقي.
والمنظر الثاني، هو ذلك الإنتشاء المدهش والمقرف إلى حد الغثيان، الذي تبديه بعض وسائل الإعلام العربية في نقل الحدث العراقي والتعليق عليه. ثمّة حالة بادية من الفرح والتشفي في خطاب الإعلام العربي المملوك للأنظمة الديكتاتورية، الشمولية، القمعية، الوراثية تلك. فعلاوة على الخطاب العربي الجديد/القديم في الذهاب والتأكيد على quot;إثبات صحة وجهة النظر الرسميةquot; والتي تحولت الأن إلى quot;إثبات وجهة نظر الأوساط الإسلامية الإرهابيةquot;، والتسويق لصحة رؤاها منذ البداية، هناك رغبة موتورة في إذكاء الفتنة وبث ـ ومن ثم تضخيم ـ كل ما من شأنه زيادة الأحقاد، التي تؤدي بالتالي إلى المزيد من إرتكاب الجرائم والمذابح والتشريع لها.
عبر إستضافتها لرموز الفكر التكفيري/الإرهابي، والقوموي/ النازي تصب المحطات الفضائية العربية الصفراء الزيت على النار الهائلة المشتعلة في نحور العراقيين كل يوم. وتتخندق المنابر الفضائية العربية هنا، من تلك التي يٌهيمن عليها تنظيمات الإسلام السياسي خلف quot;الرأي الآخرquot; وquot;الشفافيةquot; وquot;المهنيةquot; وquot;كشف الحقائقquot; وغير ذلك من حجج واهية وساقطة (أمام الهروب المتواصل من خوض أو نقل أتفه قضايا الداخل،التي تخص السلطان الممول لتلك المنابر) لعرض الحال العراقية والتعليق عليها، عبر النفخ في نار الطائفية، وإشراك من يميل لطائفة على حساب آخرى، بغية الشحن وخلق المزيد من التوتر.
والحال، فإن الخطاب المراد تقديمه هنا يسير على مستويين أثنين، الأول: تقديم العراق العنفي، الذي تمزقه حرب أهلية بين شيعتّه وسنّته، وquot;تبهيرquot; المشهد بإشراك أناس مختارين بعناية فائقة، وهم يٌمثلون وجهة نظر معروفة ومؤيدة للأعمال الإرهابية التي تطلق عليها هذه المنابر إسم quot;المقاومةquot; وتسمي جزاريها ممن يهلكون quot;بالشهداءquot;، ولعل هذا المقصد هو الذي يبرر هنا تكرار حضور بعض الوجوه الكالحة من على المنبر عينه وفي فترة زمنية قصيرة، والأكثر من ذلك، فإن بعض الموتورين أصبحوا ضيوفاً دائمين على بعض البرامج في تلك الفضائيات.
المستوى الثاني: وهو تقديم أكبر عدد ممكن من الجثث العراقية المتقطعة على مائدتها الفضائية بغية البرهان على quot;فشل الأنموذج الأميركيquot; في الديمقراطية المستجلبة لبلاد العربان. فكل تفجير يقوم به إرهابي مجرم ينشد الحور والنحور وقطعان الغلمان المخلدين، لهو في عرف بعض وسائل الإعلام العربية الناقلة لفيروس الإرهاب quot;إثبات على فشل بوش وإدارته في الحربquot;، وquot;مسمار جديد في نعش مشروع الشرق الأوسط الكبيرquot;. وفي غمرة هذه التغطية المنحازة للجلاد على حساب الضحية، يتم تسويق quot;البديلquot;، والذي هو هنا خطاب ورؤى أصحاب النظام السابق، أو quot;أولئك الذين يقاتلون أميركا وعملائها ليعيدوا للعراق وجهه العربي والإسلاميquot;، كما يتردد دائماً في الإعلام العربي الغوغائي، المنحاز ذاك.
وتبدو هنا فضائية quot;الجزيرةquot; القطرية التحريضية في مقدمة الصف الأول في نقلها وتغطيتها المتحيزة لمجريات المشهد العراقي الدامي، وتقديم أخبار الكارثة على كل شيء، كما تفعل حين تقدم وتبٌرز وجهات نظر رموز الكره الطائفي والشوفينية القومية وتذيل بآرائهم كل خبر عن هذا البلد المنكوب.
وتلعب جوقة الكتبة من منظري الخطاب السلفي والقومجي الرائج، من الشغيلة والموظفين عند شيوخ الفتاوي، في تسويد الصفحات وملئ مساحات البث بزعيقهم القومجي، الطائفي العصبوي ذاك. وعن إتهامات هؤلاء حدث ولاحرج: فكل من يدافع عن الديمقراطية والحرية في العراق والعالم العربي هو عميل أميركي، له علاقة بالصهيونية ومدسوس للنيل من الأمة وقيمها( وماشاء الله على هذه الأمة، التي أصبحت رائدة زمانها في تصدير الإرهاب والكره والموت للعالم). أما الدمار الذي يشهده العراق الأن، والذي تتحمل القيادات والفتاوي المهلكة للشيوخ الجهلة في الطائفتين الشيعيّة والسنيّة المسؤولية عن إراقة دماء اهله، فهو دليل quot;ناجحquot; وقاطع على فشل مشروع هؤلاء الكتاب في ترسيخ الديمقراطية في العالم العربي والتخلص من الأنظمة المستبدة، التي خلقت من المواطن العربي حالة فشل فريدة في كل العالم: إنموذج كاره للآخر، حتى للذي يطعمه ويحميه من جوع. يعيش العمر كله مهرولاً وراء الرغيف وسوط الحاكم quot;يلعلعquot; على ظهره..!.
الإعلام العربي شريك فيما يحدث في العراق من مذابح الأن. هو بتصديره الخطاب الطائفي، التكفيري ذاك وصنعه لإعلاميين وصحافيين وباحثين، من أناس موتورين وفارين من وجه العدالة، يساهم في ترسيخ الواقع الكارثي هذا، ويزيد في شحن النفوس وإستعدادها للتقاتل وسفك الدماء.
وتخطئ هنا الأنظمة العربية وقوى الإسلام السياسي المسيطرة على منابر هذا الإعلام حينما تعتقد بأن هذا التدبير من شأنه أن يعجل في فشل المشروع الأميركي التغييري وصرف واشنطن عن التدخل وإحداث التغيير المطلوب في المنطقة. فحقيقة الأمر أن أميركا تورطت الأن تماماً، وهي لاتستطيع التراجع وترك الساحة للإرهابيين ومخلفاتهم من صناع ثقافة الكره والنفور. ليس ثمّة من خيار غير المواجهة وتغيير كل شيء وإنتشال الداء والمرض من quot;شروشهquot;. وإذا كان الداء العربي التراثي المزمن ذاك يبٌرر حرباً مجنونة بين مذهبين كبيرين، لأسباب دينية في المقام الأول، لاعلاقة للمحافظين الجدد (ولا لليبراليين الجدد: الصداع الذي ألمّ بالطغاة العرب وحواشيهم) بها، فإن الثابت هو أن الأمور لن تٌترك على عواهنها، فبديل الدم الجاري، هناك تقسيم جديد يٌحضر له، وهو الكي الحارق آخراً، فيما فشل الدواء، بعد أن فشلت النصيحة الغبية لمستشاري إدارات الحرب الباردة من المتلونين والحربائيين، والتي قالت بتسول الدواء ممن يشكل الداء الحقيقي والصداع المزمن في المنطقة...
[email protected]
التعليقات