منذ أن ألقت القوّات الأميركيّة القبض على صدّام التّكريتي في جحره، كان معلومًا أنّه سيتمّ تقديمه إلى محكمة عراقيّة تحاكمه باسم quot;الشّعبquot; العراقي. كان بالإمكان أن يكون مصير صدّام التّكريتي كمصير نيقولاي شاوشيسكو لو أنّ quot;الشّعبquot; العراقي كان مسؤولاً عن إطاحة صدّام. يتذكّر الجميع كيف تمّت محاكمة شاوشيسكو بمحكمة عسكريّة عاجلة تمّ إصدار حكم بالإعدام عليه، ونفّذ الحكم فورًا. لقد حدث ذلك في رومانيا عقب انهيار النّظام الّذي استبدّ برومانيا عقودًا عبر أجهزة مخابرات الدّكتاتور الرّوماني.
مهما يكن من أمر، تمّ تشكيل المحكمة العراقيّة لمحاكمة صدّام وأركان نظامه الّذين عاثوا فسادًا وقتلاً وسحلاً في أنحاء العراق. كان بالإمكان أن تشكّل هذه المحاكمة نقطة تحوّل في تاريخ العراق الحديث، غير أنّ الأمر لم يحدث. كان بالإمكان أن تشكّل المحاكمة أساسًا لتصالح جميع الأطياف الإثنية والطّائفيّة في العراق، غير أنّ الأمر لم يحدث. بدل ذلك،

شهدنا، مثلما شاهدنا على الشّاشات، كيف تحوّلت هذه المحاكمة إلى مهزلة تثير فينا الحزن أكثر ممّا تثير فينا الضّحك.
لم تكن المحكمة بالمستوى المطلوب في محاكمات من هذا النّوع. ولهذا الغرض يمكن مقارنتها على سبيل المثال بالمحاكمة الدّوليّة الّتي أنشئت لمحاكمة ميلوسوڤيتش في لاهاي. فشتّان ما بين المحكمتين، من ناحية الإجراءات القضائيّة ومن ناحية مستوى القضاة واللّغة المستخدمة في أروقة المحكمة. هذا ناهيك عن مهازل استبدال القضاة بمنتصف المحاكمة العراقية، وهو أمر لا يحدث في إجراءات من هذا النّوع.
قد يكون السّبب من وراء هذه المهازل هو الدّكتاتور ذاته الّذي تتمّ محاكمته. فلقد قضى هذا المستبدّ اللّئيم على كلّ بارقة أمل، وعلى كلّ الأشجار المثمرة الّتي نمت بين ظهراني quot;الشّعبquot; العراقي. فخلال عقود من الاستبداد، لم يعد هناك قضاة، ولم تعد هناك محاكم، ولم يعد هناك ما يشير إلى بيروقراطيّة متحضّرة. لقد اختزل هذا الدّكتاتور اللّئيم العراق في شخصه هو ليس إلاّ. وهكذا أبقى هذا المستبدّ خرابًا في العراق أرضًا وشعبًا (وعلى الأصحّ: أراضي وشعوبًا). يمكن رؤية خراب من هذا النّوع في أصقاع مختلفة من بلاد العرب.
وللخراب العربي هذا أوجه أخرى نراها أنَّى أرسلنا نظرنا. فإذا نظرنا إلى ردود الفعل العربيّة بشأن حكم الإعدام على صدّام، فماذا نجد؟ النّظام العربي الرّسمي المتربّع في العواصم العربيّة صامت، بينما نرى على المستوى الشّعبي توجّهان لا ثالث لهما. فالتّوجّه الأوّل، يمكن وضعه ضمن زمرة الطّاعنين ضدّ هذا الحكم، وهؤلاء على الأغلب يأتون من شراذم البعث ومراهقي العروبة بالإضافة إلى أعوانهم من المتأسلمين الّذين ترعرعوا على أيديولوجيّات الكراهية. والتّوجّه الآخر هو توجّه أولئك الفرحين بهذا الحكم، والّذين ينتظرون تنفيذه على أحرّ من الجمر. وهؤلاء على الأغلب يأتون من صفوف العراقيين الّذين اكتووا بجرائم هذا الدّكتاتور طوال عقود، وردود فعلهم مفهومة.
ولكي لا يفهم كلامي خطأ، أقول أوّلاً، إنّه ما من شكّ في أنّ هذا المستبدّ اللّئيم الّذي تجري محاكمته في العراق الآن، يستحقّ عقابًا شديدًا على جرائمه بحقّ أبناء العراق، وبحقّ جيران العراق. لكن، ليس هذا السؤال الّذي أرغب في طرحه. إنّما أودّ أن أقول إنّه كان بالإمكان أن تلقي هذه المحاكمة حجرًا في بركة العقل العربي الرّاكد، إن لم نقل المتكلّس. وكان بالإمكان أن تشكّل هذه المحاكمة حافزًا إلى طرح مسائل أخلاقيّة نرى أنّ العرب في أمسّ الحاجة إليها. مسألة حكم الإعدام هي مسألة أخلاقيّة من الدّرجة الأولى، غير أنّ أحدًا لا يجد جرأة في نفسه للتّطرّق إليها.

هل إعدام صدّام يحلّ مسألة العراق؟ هل إعدامه سيشفي العراق من هذه الأوبئة الّتي تنخر فيه؟ فبالأمس فقط سمعنا عن هذه الجريمة الجديدة في بغداد والّتي حصدت العشرات والمئات من أرواح العراقيين في بغداد. العراق مريض أيّها السّادة، العراق في النّزع الأخير أيّها السّادة، ومن لا يرى ذلك فلن يرى شيئًا بعد اليوم. العراقيّون أنفسهم مسؤولون عن هذا المصير الّذي آل إليه العراق. صحيح أنّ غباء الإدارة الأميركيّة في تعاملها مع احتلال العراق والإطاحة بصدّام التّكريتي كان سببًا لما جرى، غير أنّ هذا الغباء هو بمثابة القشّة الّتي قصمت ظهر هذا البعير. أمّا هذا البعير العراقي فهو بعير مريضٌ مرضًا عضالاً، مريضٌ مرضًا مزمنًا. العراق مريضٌ مثلما هي حال العرب على العموم، أمّة تنخر في عظامها الأمراض، بينما تتشدّق بأنّها خير أمّة أخرجت للنّاس. إنّها أكثر الأمم كرهًا للنّظر إلى نفسها في المرآة، ولذلك فهي أكثر الأمم رؤية للقبح لدى الآخرين، ولذلك فهي أكثر الأمم كرهًا للآخر. والآخر قد يكون منتميًا إلى بطن، فخذ، قبيلة أخرى، طائفة أخرى في صفوف هذه الأمّة.
لقد نسي العرب أو تناسوا أحد المبادئ الأخلاقيّة السّامية في حضارتنا العربيّة: إنّه مبدأ quot;العفو عند المقدرةquot;. ولذلك ما أودّ قوله إنّ العراق، مثلما هي أمّة العرب على العموم، بحاجة إلى تخطّي ثقافة الثّأر والإعدام وهي الثّقافة الّتي تمثّلت في شخص الدّكتاتور صدّام التّكريتي. أنّها مهمّة من المفروض أن تكون ملقاة على عاتق مفكّريها. ولكن، لاتَ مفكّرين، لاتَ أمّة ولات رجاء.
أليس كذلك؟

salman. [email protected]