-1-
يرمي البعض الليبراليين بأنهم متقلبون في الرأي، وأنهم لا يثبتون على رأي معين. وأن ثوابتهم دائماً متغيرة. وفي هذا الصحة كل الصحة، والخطأ كل الخطأ!
فالليبراليون يثبتون على ثوابت معينة، لا ينحازون عنها ولا يتخلون، ولا ينكرونها، ولا يتنازلون.
والليبراليون يتغيرون تجاه أحداث معينة ومواقف معينة. ولهم الحق كل الحق في ذلك، وإلا كانوا كحجارة المعابد. بل إن حجارة المعابد تتغير هي الأخرى، وتتآكل، ويختلف لونها بفعل العوامل الجوية، وتقلبات الزمان.

-2-
فالليبراليون، لا يغيرون ثوابتهم الأساسية الخاصة في الحرية والديمقراطية والعلمانية، وعزل رجال الدين عن السياسة، وحرية المرأة ومساواتها مساواة تامة غير منقوصة بالرجل. ومساواة كافة المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن لونهم، أو دينهم، أو عرقهم، أو لغتهم، وانتفاء كلمة quot;أقلياتquot; من قاموس المواطنة في العالم العربي، كما هي منتفية من قاموس المجتمعات التقدمية.

والليبراليون كذلك، لا يغيّرون ثوابتهم فيما يتعلق بحل الصراع العربي ndash; الإسرائيلي حلاً سلمياً بالمفاوضات، وعدم اللجوء إلى القوة العسكرية، بعد هذه السنوات الطويلة التي مرّت على القضية الفلسطينية، والتي حولتها بفعل عوامل تاريخية وسياسية كثيرة، من قضية عسكرية ميدانية، إلى قضية سياسية تفاوضية.

والليبراليون، لا يغيرون ثوابتهم من الحداثة، والأخذ بها بسلبياتها وايجابياتها، بحلاوتها ومرّها، بعسلها وعلقمها. ويؤكدون، أن الحداثة لا تتجزأ، فإما أن نأخذها كلها، أو نتركها كلها. وعلى الأمم التي تأخذ بها أن تستعد لجراحها وأفراحها.

-3-
من ناحية أخرى، نرى الليبراليين متغيرين، وخاصة فيما يتعلق بالمواقف السياسية المحضة. وهم يتغيرون لأن السياسة ذاتها متغيرة. ولكن تغيرهم هذا ليس بمقدار 180 درجة، بقدر ما هو مراجعات وليس تراجعات لمواقفهم السابقة. والمثال الأبرز على ذلك موقفهم من الحالة العراقية، وهي الحالة التي أنهمك فيها الليبراليون انهماكاً تاماً، وكان لهم فيها موقف مميز.

لقد إيّد الليبراليون عملية تحرير العراق، واعتبروا أن ما تمَّ في العراق تحريراً، وليس احتلالاً، رغم هيجان وتشنج وهلع القوميين والدينيين من هذا الموقف.

فالتحرير كما يفهمه الليبراليون، هو استدعاء ممثلي شعب ما لقوى خارجية، لكي تخلّصهم من كارثة سياسية، لا يستطيعون التخلص منها بأنفسهم. في حين أن الاحتلال، هو غزو قوات أجنبية لبلد ما، دون رغبة أو إرادة أهلـه.

والتحرير، هو وجود قوات أجنبية في بلد ما لفترة محدودة، لمعالجة حالة سياسية معينة، تخرج بعدها القوات الأجنبية من ذاك البلد متى أرادت الشرعية ذلك في ذاك البلد، ومتى قررت. والاحتلال هو وجود قوات أجنبية لا تخرج إلا بعد أن يقرر المحتل نفسه متى تخرج.

والتحرير، هو أن تقوم القوات المحررة بالعمل العسكري والمدني أيضاً. كبناء الجسور والطرقات والمدارس والمستشفيات وغيرها من البُنى التحتية. والاحتلال هو عمل عسكري مجرد، يقع من أجل هدف عسكري معين، أو هدف سياسي أو اقتصادي.

والتحرير، هو أن يقوم الطرف المحرِر بالمساعدة في بناء حياة سياسية ديمقراطية قويمة بدلاً من الطغيان والاستبداد الذي كان قائماً. والاحتلال هو أن يقوم الطرف المحتل باعتقال زعماء الحركات الوطنية، وسجنهم، وتعليق المشانق لهم، وكتم الحريات، ومطاردة المعارضة.

وهناك قائمة طويلة من المفارقات والاختلافات بين التحرير والاحتلال. ولكن يبدو أن quot;كُله عند العرب صابونquot;، كما يقولون. فلا فرق بين الاحتلال والتحرير، سيما وأن العرب لم يعرفوا التحرير بقوات أجنبية، بقدر ما عرفوا الاحتلال بهذه القوات.

-4-
في الفترة الأخيرة، لم يكن الليبراليون حجارة معابد، بقدر ما كانوا سنابل قمح. فقد ظن البعض أنهم أمام سياسة الإدارة الأمريكية عبارة عن حجارة معابد صماء لا تتحرك ولا تتغير. ولكنهم فوجئوا بنقد الليبراليين للادارة الأمريكية نقداً مريراً، ليس لأنها حررت العراق، ولكن لأنها تهاونت في تحرير العراق، مما سمح للعرب السُنّة والعرب الشيعة حصراً على تصفية حسابات تاريخية دينية وطائفية بينهما، كانت مدفونة منذ مئات السنين، ومطمورة بفعل عصر الجليد الديكتاتوري الذي امتد من العهد العثماني مروراً بالعهد الملكي وانتهاءً بالعهد البعثي الجمهوري. وعندما بزغت شمس الحرية صباح التاسع من نيسان 2003 وبدأت حرارة الجو السياسي الديمقراطي ترتفع، وجدت فيروسات الشقاق والصراع المذهبي العربي السُنّي والشيعي حصراً المناخ المناسب للتكاثر والانتشار. وفعلت فعلها الآن بأن تحولت مناطق العرب السنة والعرب الشيعة حصراً إلى غابات وحشية تقتل بالسيف والمثقاب الكهربائي. أما بقية الشعب العراقي من كُرد وسريان وآشوريين وتركمان وصابئة وكلدان ومسيحيين فلم تكن معنية بهذا الجزء من العراق (الوسط والجنوب) الذي تحوّل إلى غابة وحوش، تأكل بعضها بعضاً كل يوم.

انتقد الليبراليون السياسة الأمريكية في العراق، لأنها تهاونت مع سوريا وإيران، ولم تضبط الحدود، وتمنع دخول الارهابيين والأسلحة والأموال إلى العراق. وهذا هو مصدر الارهاب ومنبعه.

وانتقد الليبراليون السياسية الأمريكية، لأنها جاهلة بتفاصيل الواقع العربي، وأنها تتعامل مع العالم العربي من خلال تقارير سفرائها وجواسيسها في المنطقة فقط، ولا تقرأ ما يكتبه مثقفو العالم العربي وما يقولونه. وأصغر قسم في وزارة الخارجية الأمريكية هو قسم الترجمة والاستطلاع ودراسات الشرق الأوسط. ولذلك لا تتعامل الإدارة الأمريكية على مر العصور بشؤون الشرق الأوسط إلا من خلال شخصيات غير مخلصة وغير مثقفة وغير مؤهلة، وهذا هو سبب نكستها وفشلها في العالم العربي.

وتظل أمريكا ليست معبداً، ويظل الليبراليون ليسوا حجارة هذا المعبد.

السلام عليكم.