عاشت النخبة المتعلمة في البلاد العربية، من حالة القطيعة مع الواقع، حيث الطموحات الكبيرة التي كانت تعن عليهم، فيما يشر الواقع إلى حالة من القنوط ومحدودية الدور، حتى أنهم وفي سعيهم نحو تثبيت الدور اكتفوا بدور الشارح، باعتبار افتقادهم لسلطة تجذر دورهم في حفز الحراك الاجتماعي، تلك الأزمة التي تم التعبير عنها في موقف الأفندية في العراق والعديد من البلدان العربية، لاسيما في أعقاب بعث الحياة الدستورية عام 1908، يكتب لونكرك عن أفندية العراق قائلا( يقرأون ويكتبون من دون أن يتعلموا أشياء أخرى، ويتصفون بالرجعية لكنهم متأدبون بالآداب الاجتماعية المقبولة، ومتزيين بمجموعة مضحكة من الملابس الأوربية، وكانوا حريصين دقيقين لكنهم يغرقون في المجاملات بالكتب الرسمية، وبعيدين كل البعد عن روحية الخدمة العامة..... لا يقيسون الناس إلا بمقاييس الطبقة التي ينتمون إليها، ويحتقرون القبيلة والفلاح، ويصرون على التكلم بالتركية بين العرب، وأخيرا فقد كان الفساد متفشيا بينهم جميعا تقريبا والرشوة مستفحلة بين ظهرانيهم، ولا يكتفي لونكرك بهذا الوصف الساخر، بل يضيف عليه المزيد من ترصدات الأخطاء والتي يحددها في تداول المصطلحات المتداخلة والتي تقوم على الرطانة والتعمية، والتفسيرات القانونية المجزوءة التي تصب لمصلحتهم، والتحكم في الشؤون الإدارية، والبيروقراطية المؤدية إلى تعطيل مصالح الجمهور.
لا ينكر عالم الاجتماع علي الوردي أهمية الأفندية في إحداث البعض من التجديد، بحساب الواقع الثقافي والاجتماعي البسيط الذي ظهروا فيه، وكان لاستخدامهم المصطلحات الغريبة وسيلة لإثارة التعجب وسط الجموع المندهشة، ومن هذا جاء التعالي، وكان لطروحاتهم أثرها في حفز النقاشات حول العديد من القضايا حلو أصل الإنسان والحياة الصحية والكشف عن الأمراض والوقاية منها، حتى أنهم مثلوا دورا حافزا في انقسام المجتمع إلى فريقين، مشجع ومتحمس لهم، ورافض وساخر منهم.
كيف يمكن ترصد هوية الأفندي، هذا بحساب محاولة الوقوف على شروط التساوي مع الذات، والقدرة على إنتاج الدلالات الاجتماعية، الساعية نحو تحقيق رؤية للعالم، بما يتوافق والقيم السائدة في مجتمع ما.وبالقدر الذي تبرز أهمية فعالية الهوية في الحفز والتغيير، باعتبار السعي نحو خلق التوافق بين الذات والواقع الاجتماعي، فإن الهوية لا يمكن النظر إليها بوصفها ثباتا، بقدر ما هي مجالا قابلا للتحول العميق. ترى أين يمكن ترصد دور الأفندي وعلاقاته داخل بيئته ووسطه الاجتماعي؟ لقد أشارت المس بيل ( كانت القبائل تكره الأفندي أكثر من هذا ولا تثق به، وتكاد كلمة الأفندي عندهم تؤدي المعنى نفسه التي تؤديها كلمة بغدادي.... إن أولئك يعلو صوتهم في المقاهي وهم يتحدثون عن حريات العرب إنما يضعون في فكرهم حريات من يرتاد المقاهي فقط كما أن البغدادي ينظر إلى جميع سكان البلاد من العشائر.... بمزيج من الخوف والازدراء.)
تحاول المس بيل ترسيم معالم صورة ملفقة لهوية الأفندي العراقي، عبر حزمة من الفعاليات الإجرائية،حيث التوقف عند مدار الكراهية، بين الريف العشائري، والحاضرة التي يمثلها الأفندي، إنه الترصد الانقسامي بين مجالين ثقافيين تتم محاولة تعميقه في البيئة الواحدة، وهو التطلع نحو تكريس المضمون الخالي من الدلالة حين يتم ربط المثقفين بالمقهى، بحساب تعميق اللامسؤولية، فالمواقف الصادرة عنهم على حد زعمها لا تمثل في القيمة سوى حديث مقاهي، وبهذا فإن مطالب الحرية التي ينادون بها لا تساوي شيئا.إنه التداخل في المواقف المنطوي على الخوف من الطرف القوي والازدراء والتحقير للآخر، حيث الازدواجية التي تفترضها المس بيل، بناء على الموقف المسبق الذي تتخذه من الأفندية، باعتبار ارتباطهم بالدولة العثمانية، وكيف أنهم باتوا عاطلين العمل، وما قدمته حكومة الاحتلال من تشغيل لهم من دون أن يؤدون عملا.
جاء الاحتلال البريطاني ليتم العمل على تصفية التركة العثمانية، لينال الأفندية حظهم من هذا التوجه.ليتعرضوا إلى التصفية والإقصاء والتهميش، حتى أن الأوضاع المزرية التي نالت منهم، جعلت الكثير منهم، يعيش أوضاعا اجتماعية صعبة، جعلت منهم ينقمون على القوات الاحتلالية التي أضرت بمصالحهم، فما كان منهم سوى اللجوء إلى المقهى التي استوعبت حضورهم وغدت بمثابة الفضاء الاتصالي لما يفكرون به، ولم يعدم هؤلاء من توجيه الرأي العام نحو رفض القوات الاحتلالية، لا سيما وأنهم يملكون حظهم من التعليم والمتابعة لشؤون العالم بحكم اطلاعهم على الصحف.ومن واقع الدور الذي لعبوه في ثورة العراق عام 1920 لم يتردد الإنكليز من تغيير موقفهم، فبد أن كانوا ينظرون إليهم بازدراء، لم يترددوا بعد نهاية الثورة من الاعتماد عليهم في تسيير شؤون الكثير من المرافق الإدارية الحكومية.
كيف يمكن ترصد دور الأفندية في الحكم الجديد الذي شهده العراق إبان العشرينات من القرن العشرين، لقد قيض لهم من التمدد في مجال العمل السياسي، حتى راحوا يوظفون خبراتهم الإدارية القديمة في تحديد المواقف من السلطة، ليتم لهم استخدام سلاح المعارضة بوجه الحكومة، في سبيل الضغط من أجل الوصول إلى الحكم.فالأفندي أمامه طريقان فقط، ديوان الحكومة حيث المنزلة والقوة والسلطة والنفوذ، أو المقهى حيث النفي والإقصاء والتهميش.ومن هنا جاء مدار اللعب بالشعارات، فالوطنية والاستقلال وخدمة الشعب، بات بمثابة الرأسمال الرمزي الذي يتحصن به المعارض في سبيل الوصول إلى مطامحه، لكن عندما يتسنم منصبه الحكومي، نراه يعمد إلى التبرير والتعلل بالظروف وأهمية النظر إلى المستقبل بتفاؤل، ومن هذا الواقع لم يتردد الأفندي من السعي نحو تعميق علاقاته الفرعية مع مجمل القوى الاجتماعية والسياسية، حتى برز التحالف مع العشائر تارة، أو الجيش تارة أخرى، أو الخوض في المؤامرات مع الأطراف المنافسة.
عرف العراقيون أغنية الأفندي بصوت صديقة الملاية (الأفندي عيوني الأفندي الله يخلي صبري، صندوق أمين البصرة) و صبري أفندي (صبري محمد آل ملا سلمان) المتوفى عام 1963 هو صندوق أمين البصرة، أرادت المطربة البصرية حسنية أن ترد له الجميل عام 1916، بعدما دفع عن ولدها البدل النقدي كي لا يساق إلى الخدمة العسكرية خلال العهد العثماني. من جانب آخر، شهد القضاء العراقي في سبعينات القرن العشرين، رفع قضية حق شخصي بإزاء جدال دار بين شخصين، أطلق فيه أحدهم لقب الأفندي بحق الآخر، مما عد تحقيرا وتعرضا وانتقاصا، إنه الدال نفسه، لكن المدلول تغير في التداول الاجتماعي، إنه التراكم الاجتماعي الذي جعل من المدلول التبجيلي يتحول إلى مدلول تعريضي لاينم عنه سوى رد الشرف عن طريق القضاء.