تناقلت وسائل الإعلام الصادرة يوم 17 نوفمبر الحالي نبأ وفاة الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان quot; Milton Friedman quot; عن سن تناهز 94 سنة. ويعتبر فريدمان الاقتصادي الأكثر تأثيراً على الرأي العام العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين، كما كان الحال بالنسبة للورد quot;ماينارد كاينز quot; خلال النصف الأول من نفس القرن. وحاز بناء على ذلك على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976.
تخرج ميلتون فريدمان من كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو التي تمثل quot; مدرسة quot; لحالها تدافع عن مبادئ الاقتصاد الحر منذ الخمسينات من القرن الماضي، عندما كانت الفكرة السائدة نقيض ذلك. تقول مؤسسة فريدمان في نعيها لمؤسسها، بهذا الصدد: quot;عندما بدأ د. فريدمان يكتب في السياسة، كانت الحرية تبدو لأغلب الناس معركة خاسرة، حيث كان نصف العالم يرزح تحت نير العبودية، وكان النصف الثاني يشكو من أزمة ثقةquot;. لكن الرجل واصل مهمته بثبات وانتصر في نهاية الأمر بانهيار النظام البيروقراطي للمعسكر الشيوعي، وفشل تدخل الحكومة في إدارة الاقتصاد في أكثر من دولة، بما فيها الدول المتقدمة.
أسس ميلتون فريدمان ما يعرف بـ quot; المدرسة النقدية quot; التي تعتبر أن التضخم ظاهرة ناتجة ببساطة عن زيادة كبيرة في كمية النقد الذي يصدره البنك المركزي، وأن حصر هذه الزيادة في نسبة معقولة ( بحوالي 5% سنوياً ) سيكون كافياً للقضاء على التضخم. وقد طبق الاحتياطي الفيدرالي ( المصرف المركزي الأمريكي ) هذه القاعدة لمجابهة التضخم الذي هدد الاقتصاد الأمريكي في السبعينات من القرن الماضي، و نجحت العملية فعلاً في القضاء على الظاهرة الخبيثة. كما تم اعتماد وصايا فريدمان في برامج الاستقرار الاقتصادي التي يرعاها صندوق النقد الدولي و لاقت نفس النجاح في الدول النامية.
صدر بحث فريدمان الرئيسي في العام 1963 بعنوان quot;التاريخ النقدي للولايات المتحدةquot; الذي ساعد في فهم حقيقة أزمة 1929 التي تسبب فيها، حسب الباحث، الاحتياطي الفيدرالي بسياسته النقدية التقشفية آنذاك، التي حولت حالة ركود اقتصادي - كان بالامكان أن يكون عابرا - إلى أزمة انهيار اقتصادي عام. ومن هنا قدم فريدمان قاعدة لما يجب أن يكون عليه نمو كمية النقد على المدى الطويل، بهدف تلافي الخطأ المنوه له سابقا للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، أو الخطأ في الاتجاه المعاكس، أي السماح بزيادة مفرطة في كمية النقد الذي يولد حالة من التضخم تزعزع الاستقرار و تهدد أفق التنمية الاقتصادية.
لاقي كتاب فريدمان quot;حرية الاختيارquot; (Free To Choose) نجاحا كبيرا لدى القراء، حيث احتوى على عصارة افكاره بخصوص أهمية المبادرة الفردية و ضرورة الحد من تدخل بيروقراطية الدولة (يمكن الاطلاع على أهم محتوياته و اقتنائه عن طريق quot;امازونquot; على شبكة الإنترنت:
www.amazon.com).
لعل الشهرة الكبيرة التي حضي بها ميلتون فريدمان تعود للدور الرئيسي الذي لعبه في مجال الدفاع عن الحرية الفردية التي تتطلب التقليل من تدخل الحكومة في الاقتصاد، وضرورة أن يبقى ذلك محدوداً في ميدان الدفاع والتعليم الأساسي والخدمات الأساسية الأخرى مثل الصحة العمومية. وقد وجدت هذه التعاليم آذانا صاغية عند مجموعة ما عرف بــquot;فتيان شيكاغوquot; و هم في الحقيقة خريجو الجامعات الأمريكية المختلفة الذين كانوا يدرسون بالجامعة الكاثوليكية بسانتياغو-التشيلي عندما استدعتهم الطغمة العسكرية في منتصف السبعينات من القرن الماضي لاخراج اقتصاد البلاد من حالة التضخم و الركود التي كان يتخبط فيها، وهي الإصلاحات التي أصبحت في ما بعد نموذجا لعديد الدول الأخرى...
انطلاقا من هذا المبدأ، خاض فريدمان معركة ضارية ضد الخدمة العسكرية الإجبارية التي اعتبرها ضرباً من العبودية للشباب غير الراغب في ذلك. وكانت له تدخلات مشهودة في الكونجرس مطالباً بإنشاء جيش أمريكي جديد quot;من المتطوعينquot; ، وهو ما حصل في العام 1979 عندما صادق الرئيس نيكسون على مشروع قانون يقضي بإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، و أصبح الجيش الأمريكي منذ ذلك الوقت جيشاً محترفا بالكامل.
كما قاد فريدمان حملة شعواء منذ الخمسينات من القرن الماضي لصالح quot; المدرسة الاختيارية quot; حيث اقترح إعطاء أولياء التلاميذ وصلا يحمل مبلغاً نقديا معينا، يمكن لحامله التسجيل بأية مدرسة خاصة يختارها، مما يعطي هامشاً اكبر للأولياء لاختيار المدارس والمناهج ويحسن الجودة بحكم المنافسة.
و حيث أن الرجل كان من أكبر المدافعين عن العمل الخيري، متبعا خطى العمالقة الأمريكيين في هذا المجال، وآخرهم quot;بيل جايتسquot; ، فقد وجه باستعمال ثروته لتأسيس مؤسسة quot;فريدمانquot; التي تعمل جاهدة على إشهار أفكاره في مجال quot;المدرسة الاختياريةquot; ، الفكرة الأقرب إلى قلبه بعد أن بلغ مبتغاة بخصوص القضاء على الخدمة العسكرية الإجبارية
(يمكن الاطلاع على مزيد التفاصيل بالرجوع لموقع المؤسسة:
www.friedmanfoundation.org ).
على المستوى الشخصي، يمتاز فريدمان بالنزاهة والثبات على المبدأ. من آرائه أن الباحث الأكاديمي والمفكر لا يمكنه قبول أية مناصب سياسية. على هذا الأساس، رفض الرجل عديد العروض المغرية، بما فيها منصب وزير للمالية، كما رفض منصب رئاسة مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيس رونالد ريغن لنفس الاعتبارات، واكتفى بالمشاركة في بعض الاجتماعات للفريق الاقتصادي للرئاسة، حيث ساهمت آراؤه في التوجه العام للسياسة الاقتصادية آنذاك.
في تأبينه للراحل الكبير، قال نوبل الاقتصاد quot; بول ساميالسون quot;: quot;لقد خسرنا عملاقا في الاقتصادquot; . والحقيقة أن الإنسانية جمعاء قد فقدت برحيل ميلتون فريدمان عملاقا في الدفاع عن الحرية.

محلل إيلاف الاقتصادي، باحث أكاديمي و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
[email protected]