باستثناء جائزة نوبل للسلام التي منحت هذه السنة إلى أمير الفقراء، الدكتور محمد يونس وبنك القروض الصغيرة الذي أسسه، ونوبل الآداب التي كانت من نصيب كاتب تركي مشاكس تجرأ على قول الحقيقة بخصوص المذابح التركية للاقليات الأرمنية والكردية في بلاده، جاء الحصاد الأمريكي غير المفاجئ لكافة جوائز نوبل العلمية لهذه السنة ليؤكد مرة أخرى على الهوة العلمية التي أصبحت تفصل أوروبا و اليابان عن الولايات المتحدة.

في الفيزياء، حصل جون ماثر من الإدارة الأمريكية لشؤون الطيران و الفضاء، و جورج سموت من جامعة باركلي بكاليفورنيا، على الجائزة لاكتشافهم لاشعاع المجرات والنجوم، التي بدأ يصدر 300 ألف سنة بعد الانفجار الكبير quot; Big Bangquot; الذي دشن بداية تكون العالم. وحصل على نوبل الطب كل من quot;اندريو فايرquot; من جامعة quot;ستانفوردquot; وquot;كراج ميلوquot; من جامعة quot;ماساشيوستسquot; لأبحاثهم عن مادة quot;RNAquot;وهي شبيهة بمادة الحامض الجيني المعروف بــ quot;DNAquot;، التي من المأمول أن تكون لها استعمالات هامة للقضاء على عديد الأمراض. وكانت نوبل الكيمياء من نصيب الباحث quot;روجير كورنبارجquot; من نفس جامعة quot;ستانفوردquot; لأبحاثه في الطريقة التي يتم بها نسخ الجينات لتكوين مادة quot;RNAquot; آنفة الذكر. كما كانت نوبل الاقتصاد من نصيب الأستاذ quot;ادموند فالبسquot; من جامعة كولومبيا بنيويورك لأبحاثه في مجال التنمية الاقتصادية (الموقع www.Nobelprize.org).

خروج باقي خلق الله بخفي حنين في هذا المجال، خصوصا كبرى الدول المتقدمة في أوروبا و اليابان، لا يمكن أن يكون من باب الصدفة، بل نتيجة هوة علمية بدأت منذ عقود ونبه لها عديد المفكرين. وبهذا لم تعد الدول المتخلفة وحدها تكتشف أن علماءها ما كانوا ليحصلوا على الجائزة الشهيرة لولا تواجدهم بكبرى الجامعات الأمريكية، مثل العالم المصري احمد زويل الذي ما كان ليحصل على نوبل الكيمياء لولا تواجده بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. على سبيل المثال، quot;اكتشفتquot; ألمانيا منذ أربع سنوات أن مواطنها الحاصل على نوبل الطب يقيم بإحدى الجامعات الأمريكية، كما quot;اكتشفتquot; بريطانيا أن جامعة كامبردج فقدت مؤخرا كل الحاصلين على جوائز نوبل العلمية لصالح الجامعات الأمريكية...

يتمثل مكمن الداء في هذا الإفلاس العلمي لباقي خلق الله في البنية المؤسسية للجامعات و مراكز البحث التي بقيت حكرا على القطاع العام حيث تشح الموارد وتقل الحوافز للبحث و الإبداع، بينما يتمثل التفوق الأمريكي في اللامركزية ودور القطاع الخاص، مما عزز التنافس ووفر الظروف الملائمة لتطور هذا النشاط الحيوي لاقتصاد المعرفة.

على مستوى الموارد، يكفي أن نذكر بوقف جامعة quot;هارفاردquot; الذي يفوق 27 مليار دولار، ووقف جامعة quot;يايلquot; الذي يفوق 13 مليار دولار، بينما لا يتجاوز وقف جامعة quot;كامبردجquot; البريطانية 7 مليار دولار، وتكتفي معظم الجامعات الأوروبية الأخرى على ما تحصل عليه سنويا من الحكومة.

ويتمثل الفارق الأهم في التنافسية الموجودة في قطاع التعليم العالي في أمريكا، حيث تتوفر الحرية الكاملة لتعيين الباحثين وتحديد الرواتب والمنح التعليمية، كما توجد حرية كاملة لجمع التبرعات والأموال، مما يعطي المؤسسات البحثية سبقا حتى مقارنة بالجامعات الكندية والبريطانية، وشجع على هجرة افضل الباحثين من هذه الدول إلى أمريكا.

إذا كان الدرس الهام للدول المتقدمة، من الحصاد الأمريكي الأخير لكافة جوائز نوبل العلمية، يتمثل في ضرورة مراجعة النظم المؤسسية البالية لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي، فالدرس الأول للدول العربية يتمثل في ضرورة اعتماد اللغة الإنجليزية والمناهج العلمية الأمريكية على مستوى الثانوية وفي الجامعات، وتشجيع الجامعات الأمريكية الرائدة على فتح فروع لها في الدول العربية، وهذا ما اقتنعت به النمور الآسيوية منذ عقود، بما فيها الصين الشعبية التي أعطت أولوية قصوى لإرسال افضل طلابها إلى أمريكا منذ بداية انفتاحها على الخارج في منتصف السبعينات من القرن الماضي، بينما فشلت معظم الدول العربية -مثل مصر- في ذلك، فبقيت على ما هي عليه اليوم من تخلف علمي واقتصادي ومؤسساتي و قيمي.

باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية و خبير سابق بصندوق النقد الدولي.
[email protected].