ما لم يُمتحن الشعار على الأرض، ويُثبت صحته، فلا قيمة له. ونحن العرب، أمة الشعارات بامتياز. ننطق بالشعار، وبمجرد خروجه من فمنا، نصدّقه، ونطلب من العالم كله، بعد ذلك، تصديقه، والتعامل معه، كحقيقة عيانية لا تقبل الريب والتشكيك. فعلنا هذا، منذ قرن تقريباً. وفشلنا في هذا، منذ قرن، تقريباً. ومع ذلك، فما زلنا نمارس نفس اللعبة: فقط نستبدل شعاراً بشعار، فمن الشعارات الاشتراكية والتقدمية، في النصف الثاني من القرن الماضي، إلى الشعارات الإسلاموية، في مفتتح قرنا الحالي. من [أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة] إلى [الإسلام هو الحل] و [الخلافة هي الحل] إلخ. آلاف الشعارات، لم تستحق الحبر الذي كُتبت به، ومع هذا، أخذت من أموالنا وأعمارنا، ما لو بذلناه في شأن آخر، لعاد علينا بالنفع الكثير. فلقد أثبت التاريخ، وأثبتت الوقائع والأحداث، ولسوف تثبت مستقبلاً، كون هذه الشعارات الخلابة، كانت المشكلة لا الحل. فلا حلول، عند الأمم العاقلة، في الشعارات. بل في مجالات أخرى، غير مجال اللغة والبلاغة. في العلم والتحديث والخروج من إسار المجتمع الديني، وفصل السلطة الزمنية عن السلطة اللاهوتية. ولا يتمّ ذلك في يوم وليلة، ولا بجرّة قلم من رئيس أو ملك أو ثائر، بل بعمل منهجي واستراتيجي دؤوب. ولمّا كنا نحن العرب، أبعد ما نكون عن التخطيط الاستراتيجي، وعن العقل العلمي، فقد اكتفينا بما هو متاح، وبما هو أصيل في ثقافتنا وتركيبنا الجيني والبنيوي، وبما يناسب عقلنا الجمعي، ألا وهو إطلاق الشعارات والاكتفاء بها، إلى أن يخلق الله شيئاً آخر. جنحنا للسهولة المجانية، التي أبداً، لا تليق بمسؤول، واسترحنا إليها، غاضين الطرف عن تحديات عصرنا ومشاكلنا التي تنوء بحملها الجبال. تتفاقم الأزمات مع مطلع كل صباح، فنحُلّها بالشعار وداخل الشعار، محتقرين حاضرنا ومستقبلنا، كأشد ما يكون الاحتقار! والحق أنه لا أمة ولا شعوب، في أربعة أركان الأرض، تحتقر الواقع، كما نفعل نحن. فنحن لا نرى هذا الواقع ولا نخجل من حقائقه الدامغة، ربما لأننا نعيش في زمن آخر، هو الماضي، أكثر مما نعيش واقعنا الحاضر. وربما لأننا نعيش باللغة وفي اللغة، أكثر مما نعيش في الحقيقة العيانية، وفي قلب وأتون الأحداث. إننا إلى اليوم، لا نأخذ الأرقام والإحصائيات مثلاً، على محمل الجد، وعلى ذلك قس. فأين هو الجذر في هذه المعضلة التاريخية الكبرى؟ أيكون في لغتنا ذاتها؟ أيكون في التركيب الجيني لعقولنا ونمطنا في التفكير؟ أيكون في لاوعينا المهزوم؟ أين هو الجذر حقاً؟ تأخذنا اللغة إلى الوهم، أم أنّ لغتنا بريئة من هذه التهمة، كسائر اللغات في العالم؟ يأخذنا الرغبوي فينا إلى الوهم أم حتى هذا الرغبوي مظلوم هو الآخر؟ أين هو جذر المعضلة؟ أم أنّ الأمور كلها مختلطة ببعضها البعض، وتحتاج إلى إفراد وشغْل على كل جانب على حدة؟

ليس جديداً القول بأننا مهزومون تاريخياً: مهزومون منذ ألف سنة على وجه الإجمال. وأننا منذ ذلك التاريخ البعيد، ونحن نحمل تبعات وكيمياء هذه الهزيمة. لقد ولد ثلاثين جيلاً عربياً، وهو يغص في عار الهزيمة منذ ذلك الوقت [على اعتبار أن القرن الزمني يعطي ثلاثة أجيال من البشر] فكيف لنا أن نخرج، في طرفة عين، من فداحة هذا الميراث الباهظ؟ طبعاً هذا مستحيل، ولا تكفي معه لا خمسين سنة ولا ضعف هذا العدد. ومع ذلك، أُتيحت لنا فرصة جد ذهبية، في الستين سنة الأخيرة، لكي ننهض وننفض عنا غبار الدهور. لكن نخبتنا السياسية، فشلت في هذا المسعى التاريخي أيما فشل. انبثق النفط في بلادنا، كنعمة عظمى، فحوّلناها إلى نقمة عظمى. وجاء زعماؤنا الثوريون، من أريافهم، وفي أيديهم ثروات طائلة، فحوّلوا مدننا إلى أرياف. بدل أن يُحدّثونا ويُحدّثوا جميع مظاهر الحياة من حولنا، ريّفونا، وكأننا كنا ناقصين ترييف! ذهبت الثروات سدى، وذهب البشر سدى، وبقيَ الحاكم وبقيت الشعارات. صارت الجمهوريات تُورّث للسلالة العائلية، فإن لم يكن ثمة قانون يبيح ذلك، اجتمعنا، وفي ربع ساعة، كتبنا القانون ووافقنا عليه بالإجماع. شيء كاريكاتوري، ولكنه يحدث في أزمنة العرب الحديثة، وعلى عين شعوبها وعين العالم! نضحك على المشهد، ولكنه ضحك كالبكاء. ضحك على مصائر الناس والشعوب، في هذه المنطقة الفريدة بعجائبها بين خلق الله أجمعين. فما تحت البدلة، هو ما تحت الدشداشة. وما تحت هذا الشعار، هو ذاته الموجود تحت ذلك الشعار. إنهم فقط يكذبون ويكذبون، ولا يهمهم حتى أن يصدقهم الناس. جمهوريات موز، وممالك ومشيخات، وثروات طائلة مهدورة، ولا شيء يحدث كما يجب، من الماء المالح إلى الماء المالح. نتكلّم عن المشاكل، ونقترح الحلول، ولا ننفذ شيئاً. فكل شيء مرهون بإرادة الرئيس أو الأمير أو الشيخ السامية. وما لم ينطق هذا وذاك، فلا عمل ولا بدء في العمل. ذلك أن إرادتهم من إرادة الله، وكل شيء بأوان. وهم أدرى منا بمصالحنا، فنحن شعوب قاصرة، وهم النخبة المتروك لها تدبير وتسيير أمورنا في الدنيا وحتى الدين. فإن فشلنا في كل هذه القصة الرثة، ونحن حتماً فاشلون، ذهبنا إلى الجانب الآخر الذي يقف منذ عقود منتظراً فراغ الفرصة، وجاهداً على العمل الخيري والاجتماعي، في ظل أزمات تعقبها أزمات. ذهبنا إلى الإسلام السياسي، الذي يُسيّس الدين ويُديّن السياسة، لنخسر نحن الدين والسياسة معاً! أي بدل أن نخرج من مشاكلنا المتراكمة المتفاقمة، إلى حلول ومحاولة تلمّس حلول، نذهب إلى مشاكل أعوص وأعصى على الحل من سابقاتها. فلا شيء أعوص وأفدح من تسييس الدين وتديين السياسة. لماذا؟ لأنّ لهذا معنى واحداً فحسب هو: خيانة عصرنا والنكوص والهروب التاريخي إلى كهوف أزمنة الظلام.

فلقد جرّبت أممٌ قبلنا هذا الخيار، فكان التخلّف الأكبر، وكانت المشكلة الكبرى. ولم تلقط نفَسها، إلا حين فصلت الزائل عن الأزلي: الديني عن السياسي: وأعادت الاعتبار لمركزية الإنسان على الأرض وفي الأرض. أما نحن العرب، وبعد ثلاثة قرون من التجربة التاريخية في أوروبا، فها نحن نعود إلى أول الشوط، في أكبر عملية احتقار للتاريخ ولِعِبَر التاريخ! هم انتهوا من هذه الحقبة، بعدما دفعوا أبهظ الأثمان، ونحن ذا نعود إلى حيث بدأوا لا حيث ينتهون! ولماذا بعض أو كل هذا؟ لأننا أطلقنا شعار [الإسلام هو الحل] ولا بد من تجريبه ومنحه الفرصة! ألم تُمنح الشعارات التقدمية والاشتراكية العربية الفرصة؟ فلماذا إذاً نمنعها عن الإسلاميين! منطق عجيب غريب: منطق تجريب الفشل مرتين! إنّ مشكلة العربي تعميماً، هي أنه كائن يعيش على الشعارات، ويحتقر الواقع العياني. كائن لغوي في الأساس، قبل أن يكون كائناً واقعياً. حتى لأشكّ أحياناً، إن كانت للعربي هذا من عينين! إنه ينظر إلى نفسه على أنه يمتلك الحقيقة والكمال التاريخيين، أكثر من سواه من قاطني هذا العالم المترامي الأطراف والمتعدد الضفاف. وهو ينظر إلى نفسه، على أنه الوحيد الذي يمتلك حلولاً سحرية لجميع مشاكل الأرض، فقط لكونه مسلما. فكل شيء في ديننا ولا ينقصنا شيء. بل إنّ الآخرين هم مَن ينقصهم الكثير والكثير ليكونوا في مستوانا الروحي. مع أنّ كل شعوب الأديان السماوية والوضعية، تنظر لنفسها من ذات المنظار.

إنها مشكلة عقل أولاً. عقل مشدود ومكبل بإرث تاريخي باهظ الوطأة. عقل قاصر عن التعامل مع حقائق وبديهيات وتحديات عصره. عقل لا يرى إلا من وراء حجاب النموذج الماضوي. عقل اختلطت عليه الأوهام بالرغبات، فكان ضحيتهما بامتياز. يريد حاضراً مستنسخاً من ماض، فيعجز، فإن عجِزَ، لا يُسائل ذاته، وإنما يمضي كالطفل، في المكابرة والمعاندة. كلما ثَقُلت عليه التحديات، انكفأ إلى اختراع الشعارات: إي انكفأ إلى ضرب من اللعب اللغوي الممجوج. ليظل أسير ومسجون هذا النوع من اللعب العبثي: اللعب مع اللغة وباللغة، فيما الواقع من حوله، يمضي صُعداً، نحو حقائق جديدة وتجليات جديدة، والبشر الآخرون يحرزون نجاحاً بعد نجاح. أما هو فتكفيه هذه اللعبة، ويكفيه أنه بارع ومتفرّد فيها.
فيا لها من براعة.
يا له من تفرّد!