تقرُّ مجموعة من المفكرين التنويريين العرب، بأن الثقافة العربية المعاصرة، قد تحوّل جزء كبير منها إلى ثقافة ارهاب، سواء كان من قبل مجموعات من المثقفين التي خانت الثقافة العربية المعاصرة، وذلك بتحولها إلى شعراء قبائل، وضمائر دهماء، ومثقفين شعبويين، وكتّاب جماهيريين، أو من قبل بعض quot;الفقهاءquot; الذين أطلقوا فتاوى القتل ومصادرة الحياة، وأصبحوا الأثداء الدافئة لشرعية الارهاب والبائعين quot;الشُطّارquot; لصكوك دخول الجنة، أو من قبل بعض الفضائيات العربية التي تُطلق خرافة quot;الرأي والرأي الآخرquot;، وما هي في واقع الأمر غير أجهزة إعلامية رسمية للتعصب لرأي واحد أحد، تنتجُ منه رأياً ورأياً آخر. فهو الرأي الواحد وظله. أما الرأي الآخر الحقيقي فهو مرفوض، وملعون، ومنبوذ، وتأتي به هذه الوسائل في بعض الأحيان لتسفيهه، وتسخيفه، وتسطيحه، وquot;شرشحتهquot; بافتخار واعتزاز كبيرين، وأخيراً اغتياله بمسدس الحرية الكاتم للصوت.
فمن أين جاءت ثقافتنا العنيفة بمعاجمها وممارساتها التي تقطر دماً؟
لقد جاءتنا ndash; كما يؤكد بعض المفكرين التنويريين - من ماضينا الممتد في حاضرنا، من انتصار الاتباع على الابداع، وانتصار التكفير على التفكير، وانتصار تفجير الأجساد على تفجير الطاقات الإنسانية كما قال خالد الفيصل، وانتصار الرواية على الدراية، في تراثنا الأدبي والفقهي. وانتصار الجهاد ضد الآخر على جهاد النفس العدوانية.
لقد جاءتنا هذه الثقافة العنيفة التي تقطر دماً من تقاليد الحروب، والمشاحنات القبلية والطائفية، وبطش السلطات الغاشمة قديماً وحديثاً.
جاءتنا من ردود فعلنا الهاذية على احباطاتنا الفردية والجمعية، ومن جروحنا النرجسية، سواء منها المنحدرة من هزائمنا أمام الغرب واسرائيل، أو الآتية من تربية أسرية قاسية.
والذي زاد من ضراوة هذه العوامل التراكمية، عدم وجود قطيعة ديمقراطية فيها، تؤسس لثقافة جديدة قوامها الحوار والسلام، مثلما حصل في اليابان بانتقالها من ثقافة العنف والانتحار إلى ثقافة السلام، التي بفضلها لم تستنزفها نفسياً صدمة محرقتي هيروشيما ونجازاكي النوويتين، ولم تمنعها من التحالف مع أمريكا التي هزمتها عسكرياً، ولا من التأمرك كذلك فيما بعد.
إن غياب القطيعة الديمقراطية لعوامل العنف الدموي التراكمية، جعل صدماتنا تتحالف مع موروثنا الثقافي، لصياغة شخصيتنا النفسية صياغة ثأرية، حوّلت أخذ الثأر في سلّمنا القيمي إلى قيمة اجتماعية، والتسامح والغفران والجنوح إلى السِلم إلى وصمة عار وجبن وخيانة، والانفتاح على العالم؛ أي على استثماراته وقيمه تفريطاً في الهوية واقترافاً لـ quot;أم الجرائمquot;، وهي التبعية للغرب، كما قال العفيف الأخضر.
***
لقد جاءنا جزء كبير من ثقافة الارهاب من هذه الكتيبات التي توزعها جهات دينية رسمية على التجمعات الدينية، وفي مواسم دينية سنوية كبيرة على المسلمين، تقول لهم بكل صراحة ووضوح، وباسم الإسلام، بأن التعددية الحزبية كفر وإلحادrlm;.rlm; وأن الأحزاب السياسية مجرد مكونات جاهليةrlm;. rlm;وأن الانتماء لهذه الأحزاب كفر وردة عن دين الإسلام، وأن هذه الأحزاب تفرَّق المسلمينrlm;.rlm;
والمدقق في هذه النصوص جيداً، يرى أنها منقولة حرفياً من كتاب quot;معالم في الطريقquot; لسيد قطبrlm;.rlm; الذي يعتبره متطرفو زماننا وإرهابيه الأب الروحي والمفكر المُلهم لهم جميعاً، بحيث أصبحت التسمية المتعارف عليها للفكر الإرهابي المتطرف بأنه quot;فكر قُطبيquot;rlm;، كما قال رفعت السعيد.
كذلك، فإن هذه الكتيبات تصفُ الرأسمالية بأنها مذهب إلحادي، وتبريرها لذلك أن الرأسمالية همُّها جمع المال من أي وجهrlm;، وعدم تقيدها بحلال أو حرامrlm;، أو عطف أو شفقة على الفقراء والمساكينrlm;، وقوام اقتصادها هو الربا.
وهذه الأقوال هي نفسها التي يرددها اسامة بن لادن والظواهري وكل قادة quot;القاعدةquot;، مما يجعلنا نقول أن أفكار الارهابيين تتوزع على شكل كتيبات كهذه التي توزعها هيئة رسمية دينية جهاراً نهاراً على جموع المسلمين في المناسبات الدينية السنوية الكبرى. مما يعني أيضاً، أن فكر الارهاب وتعاليمه تعيش وتعشش بيننا، دون أن ندري أو نعي. وأن جزءاً كبيراً من ثقافة الارهاب تأتي من مثل هذه الكتيبات التي تبدو بريئة في شكلها ومظهرها، ولكنها شريرة في أهدافها ومرماها. وما الشرور الارهابية التي نعاني منها، إلا من هذه الكتيبات، وما يكتب أيضاً خارجها ومساوق لها. فالأخطار التي تسببه مثل هذه الكتيبات كثيرة، منها:
1- ضياع كل مجهودات الدول العربية الإسلامية في تقديم الإسلام الناصح النقي المسالم والمتسامح للغرب. فيكفي أن يلتقط كتيباً من هذه الكتيبات أي صحافي أجنبي يجيد العربية ويترجمه حرفياً إلى اللغات الأجنبية وينشره على حلقات في وسائل اعلامه، لتقوم الدنيا علينا ولا تقعد ثانية. وتضيع كافة الجهود التي تُبذل لاقناع الغرب بأن الإسلام بعيد كل البعد عن الارهاب، وكراهية الآخر، وتكفير الآخر، وهي التهم التي تُلصق بالإسلام الآن، وتتحول إلى مواقف غربية عدائية سياسية واقتصادية وعسكرية للعرب والمسلمين.
2- إننا بهذه الكتيبات نعطي الغرب سلاحاً حاداً بيده، ودليلاً واضحاً في يمينه، من أننا دُعاة حقد على الغرب، وعداوة للغرب، ونحن نهاجمه ونكفِّره في نظامه السياسي التعددي، وفي نظامه الاقتصادي الرأسمالي. خاصة عندما تكون مثل هذه الكتيبات صادرة عن هيئة دينية رسمية بالدولة، وليست رأياً شخصياً لداعية ما، أو موقفاً خاصاً لفقيه ما.
3- إن هذه الكتيبات، وهي تهاجم التعددية السياسية والأحزاب السياسية، على هذا النحو الذي قرأناه قبل قليل، تنافي الحقيقة الواقعة، وتسيء كثيراً إلى دول عربية وإسلامية فيها أحزاب اسلامية، وعلى رأسها حزب الإخوان المسلمين في مصر، وفي معظم أنحاء العالم العربي، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي في المغرب، وحزب العدالة والتنمية الإسلامي في تركيا، وحركة التوحيد والإصلاح في المغرب، وحركة النهضة الإسلامية في تونس، وغيرها من الأحزاب الإسلامية في لبنان العراق وتونس والجزائر. ففي الوقت الذي تستقبل الدولة وتتعامل وتتشاور مع زعماء هذه الأحزاب، في الوقت الذي ترمي بعض مؤسساتنا الدينية هذه الأحزاب بالكفر والردة عن الإسلام. ومن هنا نقع في التناقض، ونكيل بمكيالين، ونكتب بقلمين، ونتكلم بلسانين.
4- إن هذه الكتيبات، تهاجم الرأسمالية والبنوك الربوية على هذا النحو الذي قرأناه، وتقول أن الرأسمالية مذهب الحادي، وهي بالتالي تصف الغرب الرأسمالي كله بالإلحاد، كما تصف الدول العربية والإسلامية ذات النظام الرأسمالي بالإلحاد، فيما لو علمنا أن معظم الدول العربية الآن تطبق النظام الرأسمالي جزئياً أو كلياً. وأن كافة البنوك في العالم العربي بنوك رأسمالية ربوية (هناك بعض المصارف الإسلامية في بعض الدول العربية). وبالتالي، فإن المتعاملين مع هذه البنوك من موظفين وزبائن ورجال أعمال قد اصابتهم شرارات الالحاد. فهل يُعقل أن يُنشر مثل هذا الكلام على ملايين المسلمين في الشرق والغرب، في كتيبات تصدر عن هيئات دينية رسمية، لكي تجرَّ اللوم والنقد للدولة من قبل الإعلام الغربي المتربص، ومن قبل المنظمات السياسية الغربية التي أصبحت تقرأ كل كلمة تصدر في العالم العربي، وتخضعها للتمحيص والدرس والتأويل، ثم نأتي نحن في آخر النهار، وننفي ما قلناه، ونكذّب من كتبناه، ونتملّص مما فعلناه.
ما أحوجنا في هذه الأيام التي يشتد فيها الصراع من كل صوب إلى التعقل والرشد.
ما أحوجنا إلى أن ندرك بأننا لم نعد نسكن كوكباً آخر.
ما أحوجنا إلى أن نعي أننا لا نعيش في جزيرة معزولة عن العالم في هذه الأرض.
ما أحوجنا أن نتلمّس الطريق حولنا لندرك أن لا شعب على هذا الأرض يستطيع السير بمفرده.
ما أحوجنا أن نفهم أن العالم قد أصبح ليس قرية كونية فقط، ولكنه أصبح مجلساً كونياً.
فلم يعد الناس، كل الناس شركاء في الماء والكلأ فقط، ولكنهم شركاء في الحياة، كل الحياة. وعلينا أن نكون شركاء حقيقيين وصادقين ومسالمين مع الآخرين.
السلام عليكم.
rlm;
التعليقات