في مناخات سياسية، سورية وإقليمية، ملبدة بغيوم الطائفية والمذهبية والعرقية، جاء تعين الأديبة (كوليت الخوري) مستشارة أدبية للرئيس (بشار الأسد)- وهي مسيحية دمشقية مستقلة ليبرالية، حفيدة (فارس الخوري)،أحد أبرز رجالات الاستقلال و زعماء الكتلة الوطنية في سوريا،تسلم رئاسة البرلمان،ثم رئاسة الوزراء 1947- حاملاً هذا التعين أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه، هذا ما أشارت اليه كوليت نفسها في تصريح لها لوكالة الأنباء الايطالية (آكي)،فور صدور قرار تعيينها، قالت: ((هذا التعيين يرتبط بأسباب سياسية،يحمل رسائل الى الداخل ولبنان والغرب،و فيه ما يبعث على التطمين للمستقلين والدمشقيين والمسيحيين الذين يشعرون بأنهم مهمشون ولا دور لهم في مواقع القرار)).وكأنها(كوليت)،وهي تحت نشوة الفوز بهذا المنصب الرفيع،أرادت أن تبشر كل هذه الشرائح والأوساط السورية المغبونة والمهمشة بأن قرار تعينيها يشكل نقطة انعطاف مهمة في الحياة السياسية السورية، وأنه سيؤسس لمرحلة سياسية جديدة في البلاد.لكن لم تمض ايام حتى نقلت عنها نشرة(كلنا شركاء) في عددها 1-11-2006،تصريحاً لها نفت فيه ما نسبته اليها وكالة ( آكي)، وقالت: ((تعيينها كمستشارة هو تكريم للأدب والأدباء في سوريا، ولم يأت للإرضاء المستقلين والدمشقيين والمسيحيين)).جدير بالذكر كنت قد كتبت مقالاً ((مسيحيو سوريا والخوف على المصير )) لجريدة (ايلاف) نشر بتاريخ 22 أكتوبر الماضي، أشدت فيه بالتصريحات الأولى للسيدة (كوليت)باعتبارها المرة الأولى التي تقر شخصية رسمية سورية بكون المسيحيين أكثر فئات المجتمع السوري تغيباً وإبعاداً عن المشاركة السياسية في ادارة البلاد.
لا أعتقد بأن الأسباب التي دفعت المستشارة كوليت لهذا النفي تخفى على المهتم بالشأن السياسي السوري،فقد اعتاد الشعب السوري على سرعة تراجع المسئولين في الدولة عن تصريحاتهم ومواقفهم التي يدلون بها للصحافة وهم في (غفوة سياسية)،وإعادة تفسير تصريحاتهم وتأويلها بما لا يتعارض أو يتناقض مع سياسات النظام وتوجهاته الوحيدة الاتجاه، في الداخل أو الخارج.ففي نظام شمولي غير ديمقراطي لا مكان فيه لحرية الرأي والتعبير والاجتهاد، للمسئولين في الدولة، حتى في ابسط القضايا والمسائل السياسية وأصغرها وأياً يكن موقعه في هرم السلطة. هذه الحقيقة السورية ليست غائبة عن السيدة كوليت وهي تدرك، من دون شك، أن في ظل الأنظمة الشمولية المنغلقة على نفسها يستبعد أن يكون لمستشاري الرئيس أو لنوابه، أي دور مهم أو تأثير في صناعة واتخاذ القرارات السياسية، خاصة أنها أولاً وأخيراً هي مستشارة (أدبية) لا (سياسية)، وبالتالي عليها أن لا تحشر نفسها في تعقيدات المشهد السياسي السوري وتناقضاته. كما أنها لا تريد تحميل قرار تعينها أكثر مما يحتمل،وقد سئم الشعب السوري من اطلاق الشعارات ومن سياسة اطلاق الوعود التي ينتهجها النظام والتي أوصلت الشعب الى مرحلة اليأس والإحباط من إمكانية تحقق الإصلاحات السياسية والغير سياسية التي تم الحديث عنها.وبالطبع أن السيدة كوليت،وهي الأديبة الرقيقة، تدرك جيداً حساسية المرحلة ودقة الظروف والأوضاع التي تمر بها سوريا،وما يسود (الشارع المسيحي) من مشاعر الإحباط واليأس وهواجس القلق على المستقبل،والتي تعود بالدرجة الأولى الى سوء الأوضاع(السياسية والاقتصادية والحقوقية وتفشي ظاهرة الفساد) في سوريا.كما أن هواجس المسيحيين السوريين ترتبط بشكل أو بآخر بالظروف الصعبة والمقلقة التي تحيط بالمسيحيين المشرقيين عامة،بسبب تنامي الاتجاهات الإسلامية المتشددة وتصاعد أعمال العنف والصراعات القومية العرقية والمذهبية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط التي غدت فيه المسيحية،بعد أن كانت ديانة الأغلبية، مجرد أقليات دينية وعرقية متناثرة في مجتمعاته الإسلامية المحافظة والمتشددة تجاه العقائد الأخرى واتجاه الحريات الدينية والشخصية.كما ويتعرض المسيحيون في بعض المجتمعات الإسلامية الى مظالم وتعديات شتى،تصل في بعضها الى حدود القتل العمد والتهجير القسري والتعدي على كنائسهم ومحرماتهم وخطف واغتصاب نسائهم وبناتهم(مصر، العراق ،السودان ،الصومال...).وبفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ المشترك والعلاقات الاجتماعية والسياسية المتميزة والمنفتحة بين الشعبين اللبناني والسوري، ألقت الأزمة اللبنانية وتعقيداتها ومضاعفاتها الخطيرة، التي هزت مكانة وموقع المسيحيين في التركيبة أو المعادلة الديمغرافية والاجتماعية والسياسية اللبنانية، ألقت بظلالها على مشاعر ونفوس المسيحيين السوريين وزادتهم إحباطاً ويأساً وقلقاً على المستقبل.بالطبع لا يمكن تجاهل أو إغفال تأثير الأوضاع الأمنية المتدهورة وانفجار الحرب الطائفية في العراق، التي طالت نيرانها المسيحيين العراقيين،من غير أن يكونوا طرفاً، على وضع المسيحيين السوريين.إذ يشكك المراقبون بقدرة النظام السوري على تجنيب سوريا مضاعفات الأوضاع الصعبة التي تحيط بها من كل حدب وصوب،وهو(النظام) نفسه واقع تحت ضغوط إقليمية ودولية،خاصة إذا ما صدقنا رواياته حول نشاط الخلايا الإرهابية والمجموعات الإسلامية التكفيرية( جند الشام وغيرها) التي بدأت تطل برأسها من حين لآخر وتشتبك مع قوات الأمن السورية. بدون شك، وبغض النظر عن مدى صحة ما نقلته وكالة آكي الإيطالية من تصريحات عن المستشارة (كوليت) من عدمه، أن نفيها لما نسب اليها لا يغير من حقيقة واقع حال المسيحيين السوريين وقضيتهم،كونهم أكثر مكونات الشعب السوري مهمشين سياسياً ومبعدين عن مواقع القرار في البلاد(حرمانهم من تولي المناصب السياسية السيادية في الدولة)، جراء قوانين التميز الديني التي انتقصت من حقوقهم (السياسية والمدنية والديمقراطية) التي تعد من أساسيات حقوق المواطنة، وهم (المسيحيون) جزء أساسي وأصيل من النسيج الوطني السوري، ناضلوا الى جانب بقية مكونات الشعب السوري من أجل استقلال سوريا وأخذوا دورهم في بناءها وتطويرها في كل مناحي الحياة.وبفضل الوعي الوطني المتنامي في أوساط النخب المسيحية في سوريا وحرصها الزائد على تماسك ووحدة المجتمع السوري بكل طيفه الديني والقومي والثقافي والمذهبي،وسعيها لجعل سوريا دولة لكل مواطنيها تقوم على العدل والمساواة وتحكم بالقانون والدستور وبآليات ديمقراطية، لم تفكر يوماً (النخب المسيحية) بتأسيس أحزاب وتنظيمات مسيحية، وإنما انخرطت هذه النخب في معظم الأحزاب السورية، لا بل كان لها الدور الأبرز في تشكيل وتأسيس أهم ثلاث أحزاب سياسية في سوريا وبلاد الشام(البعث، الشيوعي، السوري القومي).لكن بكل أسف وحزن وطني شديدين أقول ما أخشاه، هو:أن يضطر المسيحيون السوريون، بعد أكثر من ستة عقود على الاستقلال والحكم الوطني، أن يجدوا أنفسهم مضطرون للعودة الى الوراء وتشكيل (أحزاب مسيحية) تحت ضغط تنامي ظاهرة الاصطفافات السياسية على أسس طائفية ومذهبية واثنية في المجتمع السوري.فهذه الاصطفافات والولاءات البدائية المتعارضة مع الولاء للوطن،لا بد لها، من أن تزيد مشاعر القلق والاغتراب الوطني لدى المسيحيين السوريين،وأن تخل بشروط العيش المشترك والشراكة الحقيقة في الوطن.وربما يكتشف المسيحيون في سوريا، تحت ضغط (المعضلة الطائفية)، أن عدم تشكلهم في كتلة سياسية واحدة وغياب أحزاب خاصة بهم تشكل إحدى أهم نقاط ضعفهم السياسي في المعادلة السياسية السورية.لا شك،أن الإطالة في عمر الاستبداد وديمومته في سوريا وسياساته الخاطئة تجاه معظم القضايا الوطنية ومشكلات الواقع السوري،في مقدمتها قضية التنمية الشاملة و الديمقراطية وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة واستقلالية القضاء،سببت انحسار القوى الليبرالية والتيارات العلمانية والليبرالية،ووفرت تربة، اجتماعية وثقافية ونفسية، خصبة ومناسبة لبروز وتنامي مختلف أنوع العصبيات والانتماءات والولاءات البدائية وتنامي الاتجاهات الإسلامية المتزمتة وانتشار (الفكر الظلامي) وثقافة كره الآخر في المجتمع، ليس في الأوساط الشعبية والفقيرة فحسب، وإنما داخل مختلف الأوساط والشرائح والطبقات الاجتماعية والنخب الإسلامية بما فيها مرجعياتها الروحية والقائمين على المؤسسات التعليمية والتربوية الإسلامية.هذا ما كشفت عنه الرسالة التي رفعها مؤخراً عدد من (العلماء المسلمين) يتقدمهم (محمد سعيد رمضان البوطي)الى الرئيس(بشار الأسد)، احتجاجاً منهم على قرار الغاء المدارس الدينية في المرحلة الإعدادية،إذ تهجموا في رسالتهم على التعليم المختلط ووصفوه بـ(بؤر الفساد الأخلاقي) وبأنه آفة خطيرة له آثار ونتائج شائنة على المجتمع والإنسان.

كاتب سوري- القامشلي مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]