بعيداً عن المصطلحات الفلسفية المركبة والصعبة وانطلاقاً من قناعتي الفكرية بوجود فرق كبير بين الأيمان كطاقة روحية داخلية كامنة ومتمركزة في أعماق الإنسان، أي إنسان، وبين قوى النصوص الدينية الجامدة كقوى خارجية يمكن أن تدخل إلى عقل الإنسان وتأثره لصالحها على عكس قوى العلم التي تدخل العقل فتنيره وتبدد ما به من ظلام وتحرره من الجهل والخرافات. أجدني متجهاً إلى حلبة صراع القوى المهيمنة على الإنسان لمحاولة فهم طبيعة هذا الصراع مستخدماً أدوات قوى الجهد الذاتية.

في الحقيقة أن هناك صراعات شرسة بين بعض القوي الحاكمة لتصرفات الإنسان مثل قوى العقل، قوى العلم، قوى النصوص الدينية. قوى الأيمان، hellip; . وللوقوف على وصف دقيق لهذا الصراع ليتنا نبدأ بقوى العلم. حيث نجد أن كل شيء في هذا الكون الذي نعيش فيه يتغير بمعدلات خاصة به ولا يوجد إستثناء لهذه القاعدة على وجه الإطلاق. فالمادة تتغير بل وتتحول من مادة إلى مادة أخرى فالبترول ـ مثلاً ـ لم يكن بهذه الصفات والخواص من آلاف السنين ولن يبقى على حالته هذه بعد مرور السنين. والإنسان أيضاً يتغير في كل لحظة. فالإنسان يتغير وزنه وطوله، وشكله في كل لحظة .. حتى المشاعر والأحاسيس والوجدان والضمير والفكر .. كل ذلك يتغير بمعدلات تختلف من شخص لآخر كما تختلف باختلاف المكان والزمان، حتى أن معتقدات الإنسان تغيرت على مر التاريخ ومازالت تتغير وما كان الإتسان يعتقده حقيقة في الماضي يعتبره اليوم خرافة وما أدراك ما الذي سوف يعتقده الإنسان بعد آلاف السنين!

في علم الرياضيات فإن العملية الرياضية التي تصف بدقة التغيرات التي تحدث للمادة في أقل فترة زمنية (فترة زمنية تقترب من الصفر) تسمى quot; التفاضل (Differentition)quot;. وعلى العكس فإن التكامل (Integration) هو العملية العكسية للتفاضل أي أن التكامل يصف المادة قبل التغيير ويعود بها إلى حالتها الأصيلة. والإنسان في الحظة التي يتعامل فيها مع المادة لا يعلم إن كانت هي واقعة تحت تأثير التفاضل أم تحت تأثير التكامل ويظل حائراً في موقفه هذا مؤكداً بتلك الحيرة مبدأ quot; خرافة الأصلquot;.

و يؤكد علماء الأجناس أن الإنسان البدائي في أول ظهور له كان همجياً وحشياً. فكان يشبه الحيوان في سلوكياته وتصرفاته تجاه الطبيعة وتجاه الإنسان الآخر. فيعتدي على الآخر إنسانا كان أم حيواناً ويسلبه ويجرحه ويقتله. لا يفرق في ذلك بين العدو والصديق أو القريب فالكل أعداء حتى أن قايين قتل أخاه هابيل كما هو مذكور في الكتب الدينية. فلم يكن الإنسان البدائي يعرف معنى الفضيلة فكان يكذب ويخدع ويحيك المؤامرات ضد كل ما هو مختلف عنه وكان يشعر بالفخر والزهو عندما ينجح في إذلال وقهر الآخر(عندما كان همجياً). لم يكن يعرف التسامح .. لم يكن يعرف معنى الحب .. وكانت تحكمه شريعة الغاب. لم يكن الإنسان البدائي يعرف معنى الأسرة فكانوا يتزوجون ويتزاوجون من بعضهم البعض وهو ما نسميه اليوم quot;زنا المحارمquot;. كل هذه الممارسات كانت أموراً طبيعية عادية بالنسبة له.
في البداية لم يكن الضمير الإنساني قد نضج بعد. فلم يكن الإنسان البدائي يعرف مفاهيم quot;تأنيب الضميرquot;، quot;الشعور بالندمquot;، quot; التوبة quot; ... بل كان ضميره مأثوراً لمفاهيم العداء مع العالم المحيط به فلم يكن بعد قد عرف كيف يستأنس الحيوان ويروضه، ولم يكن قد عرف كيف يتجنب الكوارث الطبيعية ويحمي نفسه منها، ولا كيف يحمي نفسه من الأوبئة التي كانت تفتك به دون أن يعرف سبباً لذلك.

في هذه الحالة المخيفة والكئيبة لواقع الإنسان في ذلك الزمان لم يكن أمام الإنسان من سبيل سوى أن يستخدم عقله للخروج من هذه المشاكل وبدأ يستثمر كل الإمكانيات التي تتيحها وتمنحها له الطبيعة للتأقلم والتكيف والتعايش السلمي معها. وبدأ يظهر أُناس حكماء مصلحون وفلاسفة يفسرون الظواهر الطبيعية ويحاولون وضع ضوابط لسلوكيات الإنسان تجاه الطبيعة وتجاه الإنسان الآخر. وبدأ الإنسان بالتدريج يتعلم بعض مفاهيم الفضيلة مثل المحبة، والصدق، وحب العمل والنظافة وغيرها... وبدأ يفكر في كيفية خلق الكون والحياة والموت وغيرها من المفاهيم. فكانت قوى العقل والتفكير متحدة مع قوى العلم والفلسفة تتزايد محصلتها في الكم وتتعاظم في الكيف باتجاه سعادة الإنسان.

حتى ظهرت الأديان أو قوى النصوص الدينية معلنة أنها الأحكام الشرعية الضابطة والمنظمة للقوانين التي تنظم حياة الناس وتنظم العلاقات بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وخالقه، وبين الإنسان والعالم المحيط به. فكانت المواجهات بين قوى العقل والعلم من جهة وبين قوى النصوص الدينية من جهة أخرى في حالة نشاط دائم معلنة انتصار قوى العقل على النصوص الجامدة أحياناً وانتصار قوى النصوص الدينية المتفقة مع العقل والعلم أحياناً أخرى. إلا أن قوى النصوص الدينية الجامدة وما تحمله من سلطة أستطاعت أن تغزو عقول البسطاء وأجبر الإنسان قهراً أو طوعاً في التخلي عن المفاهيم التي كان يتبعها طبقاً لكتب حكماء ما قبل الأديان.. وأخذ في إستبدال تلك المفاهيم والخبرات التي أكتسبها بعقله ونشاطه الذهني وأخضعها لمبدأ التجربة والخطأ بشرائع وفرائض الأديان التي يعتنقها وكان لزاماً عليه أن يقبلها دون تمحيص أو تحليل باعتبارها أوامر إلهية من الخطأ إخضاعها لمباديء التحاليل العلمية أوالعقلية البشرية المحدودة.

وعندما كان يصطدم العقل مع النص كان النصر دائماً حليف النص إنطلاقاً من مبدأ قصور العقل البشري وكمال النص الألهي. وهكذا أسرع الإنسان البسيط والذي لم يمتلء عقله بعد من نور العلم أن بملء عقله بالنصوص ـ صاحبة اليد العليا ـ وبدأ يتعامل مع العالم المحيط به مستخدماً في ذلك أدوات النص ( قال، قيل، لاتجادل، الإنسان محدود وضعيف، الحكمة الإلهية عالية عن الفهم، hellip;) وبإزدياد كمية النصوص الدينية داخل العقل البشري تناقصت كمية النشاط العلمي في العقل حتى إذا ما أمتلأ العقل البشري بأكمله بالنصوص يكون بذلك قد أنطفأ تماماً نوره وإظلمت مداخله وخوارجه ـ باعتبار العلم هو نور العقل كما عرفه الفلاسفةـ في هذا الظلام الدامس فإن العقل يتوه ويدخل عالم الفوضى ويفقد البوصلة اللازمة للتحرك في الاتجاه الصحيح وبذلك لا يكون أمامه إلا التحرك إلى عالم التخلف والجهل أو عالم التطرف والأنتحار وكل ما هو ضد الحياة وهو ما يمكن تعريفه باسم quot; التطرفquot; أو quot;التشددquot; أو quot;الأصوليةquot; فيهيمن النص على العقل الديني ويأسره لصالحه. ولعلنا نلاحظ أن معظم المشاكل والصراعات الموجودة في العالم الآن هي نتيجة مباشرة للتمسك بالنص.

نتحول الآن إلى قوة أخرى من القوى الحاكمة لتصرفات الإنسان ألا وهي قوة الإيمان وهي قوة تتفق وتنسجم تماماً مع حاجة الإنسان الفطرية إلى السلام والطمأنينة. وقوة الإيمان هذه ليست حكراً على أصحاب النصوص السماوية بل يتمتع بها كل سكان الأرض، كل على حدة فيختلف الشعور والإحساس بمقدارها واتجاهها وخط عملها من إنسان لإنسان آخر معتمداً في ذلك على عوامل البيئة والثقافة.
والأيمان لا يدخل في صراع ومواجهات مع العقل مثلما يفعل النص. وذلك لأن النصوص هي التي ترفض العقل وترفض طريقة تعامله معها وتعلن عليه الجهاد. على عكس الأيمان الذي يتصالح مع العقل فلا يعتدي أحدهما على الآخر بل هما في معاهدة سلام سرية لايمكن للإنسان الإفصاح عنها. فقبول العقل الإنساني لنعمة الإيمان يختلف بالتمام والكمال عن قبوله النصوص. ذلك لأن الإيمان يخضع لعمليات التفاضل فيتغير كماً ونوعاً ـ فكمية الإيمان يمكن أن تزداد ويمكن أن تتناقص ـ وبذلك نجد الإيمان منسجماً بطريقة أو بأخرى مع العقل الذي يتغير هو الآخر بعكس النصوص الثابتة غير المتغيرة والتي لا تمس.
من هنا نجد أن أحد مثلثات القوى الحاكمة لتصرفات الإنسان لن يكتمل ويصبح ذو فائدة ما دامت النصوص تمثل أحد أضلاعه. لذك إما أن تستبدل النصوص الثابتة بالعلم المتغير وإما أن تستبدل بتفسيرات تتغير مع الزمن لتنسجم مع بقية أضلاع المثلث أي مع العقل والإيمان.

أستاذ الرياضيات بالجامعات المصرية
[email protected]