طرح كوفي أنان مشروع المؤتمر الدولي لمعالجة القضية العراقية فرد على الفور السيد المالكي على المشروع بالرفض القاطع، بل وبادر لطرح بديل مواز، ذلك هو المؤتمر الأقليمي، ولكن عَدَلَ فيما بعد إلى مشروع حاول فيه أن يتجنب منهج رد الفعل، فقد ذكرت الأخبار أن السيد المالكي بعث من يمثله إلى دول الجوار العراقي، ليستفهم من صناع القرار السياسي هناك بين الخيارين (مؤتمر دولي أم مؤتمر إقليمي)، الأمر الذي حير المراقبين في الكيفية التي يرسم فيها السيد المالكي قراراته المصيرية ! على أن السيد وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري كان أكثر دقة وحنكة في إدارة لعبة التصريحات، فالرجل لم يستهجن فكرة المؤتمر الدولي وهو حاضر على مائدة السيد مبارك، بل قال ما مفاده، أن المؤتمر الدولي فكرة مقبولة،ولكن شريطة أن يعالج المؤتمر الشأن العراقي بحيادية وشفافية وإلى الأمام، وليس أن يعود بالعراق إلى المربع الأول، وهي براعة ومنطق في وقت واحد.
لم ترق فكرة المؤتمر الدولي لإيران وسوريا، فيما وجدت ترحيبا من السعودية والكويت كانت سباقة إلى الفكرة واصفة إياها بالخلاقة، وفيما رفض المشروع عزيز الحكيم رحبت به أوساط محسوبة على المحيط السني العراقي، وكل ذلك يدل على حيوية المشروع وعمقه، وفي خضم الاخذ والرد الأقليمي والوطني، لم يعارض الرئيس الأمريكي فكرة المؤتمر الدولي، حتى مع مشاركة إيرانية سورية كما لمح من بعيد، ولكن بشرط أن تكف الدولتان عن التدخل في شؤون العراق كما صرح علنا وصراحة.
الحقيقة أن المشكل العراقي أكبر من مؤتمر إقليمي، كما أنه أكبر من مؤتمر دولي يتجاهل الدول الاقليمية، فهل تشهد الايام المقبلة صورة جامعة بين المشروعين؟
هنا قد تلعب حكومة المالكي دورا رائعا فيما إذا استطاعت أن تقدم للعالم مشروعها الخاص بها، بعيدا عن صيغة الفكر المانوي المغلق (أما وإما)، وهي يجب أن تقدم مشروعها الخاص بها، لأن العراق عراقها وليس عراق أمريكا وبريطانيا، ولا عراق إيران وسوريا والسعودية، وعليه، يجب أن تتحول حكومة المالكي هذه الأيام إلى ورشة عمل نشطة من أجل مشروعها الذي يعبر عن إرادتها، يتجاوز الإملاءات الغربية والأقليمية.
ولكن من الذي يضمن أن مشروع المؤتمر الدولي أو مشر وع المؤتمر الأقليمي أو المشروع الجامع ستكون له أولوية الحضور والتحقق؟ فالقضية العراقية اليوم جزء لا يتجزأ من حالة شرق أوسطية ملتهبة، وعليه، من الصعب التكهن بما سيحصل على المدى القريب أصلا في المنطقة وبتواصل مع المشكل العراقي الخطير، الأمر الذي يؤكد على ضرورة الجهد الزائد والخلاق من قبل حكومة المالكي لمواجهة الطواري والمستجدات الكبيرة.
أعتقد أن المالكي مطالب ا ليوم أن يظهر للشعب العراقي بخطاب جديد، يحلل به القضية العراقية بدقة وتفصيل، بعيدا عن خطاب المرحلة الستينية من القرن الما ضي، وبلغة الأزمة لا بلغة الجلسة العارضة، بلغة تفكيكية لا بلغة إحالة على الأماني والرغبات والتطلعات، حقا أني لحد الآن أتطلع إلى خطاب سياسي على لسان السيد رئيس الوزراء العراقي يطرح فيه فكرا خلاقا، يحلل فيه المشكل العراقي بفواعله الداخلية والخارجية، وعلى ضوء مستجدات الساحة العالمية والأقليمية، كما كنا نسمع على لسان جمال عبد الناصر وهو يتحدث عن أزمة قناة السويس، أو كما كنا نسمع على لسان حافظ أسد وهو يتحدث عن أزمة الخلاف المصري السوري حول حرب تشرين وزيارة القدس، فإن خطاب الأزمة من مقاييس إكتشاف قدرات الزعماء السياسين وصناع القرار السياسي المصيري.
أقول هذا لأن العراق اليوم وبعد المؤتمر الصحفي لبوش وبلير دخل عنق الزجاجة حقا، والأيام المقبلة ربما تشهد تحولات دراماتيكية عميقة ومؤثرة في العراق والمنطقة، وقضية المؤتمر الدولي أو الاقليمي أو المؤتمر الجامع بينهما يشكل نقطة حرجة ومقلقة في جسد الأزمة، فهل نسمع من السيد المالكي خطابه الذي يضع فيه النقاط على الحروف، وبلغة التشريح الدقيق لجسد المشكل الذي صار عالميا؟
شخصيا وبكل تواضع أرى أن فكرة المؤتمر الدولي لمعالجة المشكل العراقي سوف تجد لها صدى أعمق وأوسع في العالم العربي والإسلامي من فكرة المؤتمر الأقليمي، كذلك الدول الكبرى ستكون محل ترحيب ودعم لإقتراح عنان، وهاي هي أمريكا وبريطانيا لا يمانعان المقترح بشكل عام، فيما سوف لا يكون لفكرة المؤتمر الأقليمي هذا الصدى الكبير، والأسباب معروفة، لأن المشكل العراقي أكبر من الجميع، كما أن الجميع يريد أن يكون له حضور في العراق، بعد أن بات واضحا أن عدم وجود حل لهذا المشكل قد يهدد المنطقة وتاليا العالم، فهل إتخذت حكومة المالكي ما يلزم لو أن فكرة المؤتمر الدولي فرضت منطقها وحضورها؟ وفي نفس الوقت، هل إتخذت حكومة المالكي ما يلزم فيما لو رجُحت فكرة المؤتمر الاقليمي؟ أو فيما لو طرحت صيغة جامعة؟ وفي نفس الوقت أيضا، ما هو موقف حكومة المالكي لو أن كل هذه المقترحات أصطدمت بعقبات كؤود، ولم ينتج شي؟
إن ما قام به السيد رئيس الوزراء من بعث ممثلين عنه إلى دول الجوار لعرض المشكل العراقي فكرة جيدة، ولكن لا بهدف إستجداء الحل، بل بهدف التباحث عن الحل، وكان من المفروض أن يرسل مبعوثيه أيضا إلى الدول الإسلامية والاوربية وبقية الدول الأخرى ذات الثقل العالمي.
إن الأيام المقبلة عسيرة جدا بالنسبة لحكومة السيد المالكي، وهذا يتطلب من الحكومة الإستعانة بكل الطاقات العراقية الممكنة بصرف النظر عن كل توجهاتها الحزبية والاديولجية ــ شريطة عدم إشتراكها بإيذاء العراقيين ــ لوضع المقترحات والتصورات والحلول الممكنة، من خلال ذلك سيتطلع العراقي إلى ما تقوله حكومته عن مشكلته قبل أن يتطلع إلى ما تقوله واشنطن أو موسكو، إلى ما تقوله بغداد قبل إلى ما تقوله طهران أو جدة.
نريد من السيد المالكي خطابا سياسيا خلاقا نتعرف من خلاله على تفاصيل مستقبلنا كعراقيين من كل الاديان والطوائف والقوميات، وكان الله بعونه.