حزب الله وحماس طرفان في حوارات ممتدة منذ أمد كل مع مناظريه، أو بالأصح كل مع أغلب مكونات الكيان المنتمي ظاهرياً إليه، أي لبنان وفلسطين، حوارات طويلة كأيام سوداء، لا تسفر إلا عن المزيد من الظلام والإظلام، ولأن الخيار الآخر وهو الصدام مرير ومرعب، فإن جذوة الأمل في الحوار لا تخبو، لكن هذا لا يؤمن لنا مهرباً من التساؤل، إن كان لمثل تلك الحوارات من جدوى، وفي أي اتجاه نتوقع لتلك الجدوى أن تصب، فدرء شر الذئاب لن يتحقق بمجرد أن يتكرم كبير الذئاب بارتضاء الحوار، فهذا الكرم الحاتمي وحده لا يكفي للثقة بحسن نواياه، وبأنه لن يستمر على مائدة الحوار يمارس طباع الذئاب عواء وعقراً، ليمتد ما يسمى بالحوار دون نهاية أو نتيجة.
من الجائز القول أن أهم ملامح ما توصلت إليه مسيرة الحضارة الإنسانية حتى الآن هو اعتماد الحوار السلمي العقلاني، كخيار أول ومفضل لحل الخلافات والنزاعات التي تنشأ بين البشر، ويبدو الأمر من وجهة نظر مثالية كما لو كان إعلاء لمنطق الحق على منطق القوة، باتجاه تحقيق حلم المدينة الفاضلة، لكن الأمر على أرض الواقع نادراً ما ينطبق عليه هذا الوصف، ليس فقط لأن الحق المطلق فكرة مثالية لا تمت إلى عالمنا حيث كل الحقائق نسبية، ولكن بالأساس لأن حواراتنا التي نظنها عقلانية تظل أسيرة موازين القوى بين الأطراف على أرض الواقع، بما لابد وأن ينعكس على شكل النتائج التي يجدر توقعها من مثل تلك الحوارات، يدخل بالطبع في حسابات القوى قوة أطراف غير مباشرة، وقوة وقدرة التأثير لقوى مهيمنة، كقوة الدولة في حالة المنازعات الفردية، وقوة المجتمع الدولي في النزاعات على المستوى الأوسع، وهو ما قد يدفع الأمر بدرجة أكبر، نحو صيغة إحقاق الحق في مواجهة الباطل.
لكي تتسم عملية الحوار بالإيجابية يلزمها عدة شروط:
middot; الشرط الأول يتعلق بطبيعة الخلاف بين أطراف الحوار، وما إذا كان خلاف وجود أم خلاف حدود (حسب الاصطلاح السائد)، فإذا كان الخلاف يتعلق بوجود الآخر ذاته، سواء وجوده الفيزيقي أو المعنوي، أي إجمالي توجهاته التي تشكل هويته الراهنة، فإنه من العبث توقع أن تسفر المناقشات عن قبول الطرف المراد استئصاله أن يلغي ذاته، لمجرد الخضوع لمقولات توصف بالعقلانية يتم تداولها على مائدة حوار.
فالحوار بين الرئاسة الفلسطينية ومنظمة حماس تهدف كما هو معلن صراحة، لأن تكف حماس عن عمليات قتل المدنيين (المسماة بأعمال العنف)، وبالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود (المسماة بالاعتراف بإسرائيل)، ولأننا نعرف جميعاً (رغم مغالطات البعض) أن حماس منظمة تقوم على مبدأ وهدف واحد هو قتل اليهود أعداء الله، حتى لا يبقى أحدهم في أرض فلسطين من النهر إلى البحر، وهو الهدف الذي ربما لو تحقق لانتقلت حماس للهدف الأبعد، وهو تتبع اليهود في كافة بقاع الأرض لتطهيرها منهم، فإن ما يطلب منها الإقرار به على مائدة حوار مع الرئيس الفلسطيني هو أن تحل نفسها، أو تفجرها التفجير الأخير، لكن هذه المرة على مائدة حوار، وليس في حافلة أو عرس يضم أعداء الله من اليهود.
نفس هذا يقال على حوارات حزب الله مع الأكثرية النيابية في لبنان، فالمطلوب من حزب الله أن يتخلى عن سلاحه، وأن يكف عن اختراع المشاكل لتوريط لبنان مع إسرائيل، وأن يصير لبناني الانتماء، وهذه كلها طلبات تعني إصدار حكم بإعدام حزب الله، وهو المنظمة القائمة على حمل السلاح لقتل أعداء الله، زرعها في الجنوب اللبناني النظام الإيراني والسوري لتكون بؤرة تفشل أي محاولات للسلام في المنطقة، وإذا كان حكم الإعدام المرجو هذا قد تعذر تنفيذه على يد إسرائيل، يظاهرها المجتمع الدولي (والعربي أيضاً)، فهل يمكن تحقيق نفس النتائج على مائدة حوار؟!
(ينبغي بالطبع أن ندرك أنه إذا لم تكن الأكثرية النيابية تعلن صراحة كل ما عددناه من مطالب من حزب الله، فإن هذا لا يعني أن مسئوليه من السذاجة بحيث لا يدركون أن هذا هو الطريق المراد دفعهم إليه.)
middot; الشرط الثاني يتعلق بثقافة أطراف الحوار ذاتهم، سواء الجالسين إلى مائدة الحوار أو من يمثلونهم من جماهير، فأصحاب الثقافة أو الدعاوى الدوجماطيقية أو الأيديولوجية ذات الاتجاه الواحد، والتي تقيم الواقع بمنطق الأبيض والأسود، لا تقيم حواراً حقيقياً وإنما ما تفعله في مثل تلك اللقاءات هو ممارسة الصدام والتناطح بالشعارات والكلمات، التي قد تتحول سريعاً إلى لكمات، ولدينا على إحدى الموائد منظمة حماس بفكر جماعة الإخوان المسلمين السياسي، والذي يدعي احتكار الدين والتحدث باسمه، وعلى المائدة الأخرى حزب الله، الذي يدل اسمه على جسمه، فهو يعتبر نفسه حزب الله بما يعني أنه يواجه حزب الشيطان، الذي هو كل آخر، وبالتحديد كل من لا يخضع ويخنع لتعليمات وأوامر السيد حسن نصر الله، فهل يعقل أن نتوقع ممن يتصور نفسه حزب الله أن يتحاور تحاوراً حقيقياً مع حزب الشيطان، اللهم إلا من قبيل كسب الوقت وتحين الفرص، ليعود من جديد يمارس العقر، متى استعادت أنيابه المنهكة قدراتها؟!
middot; الشرط الثالث يتعلق بطبيعة ما يتم طرحه على الطاولة من حوارات، من حيث مدى صراحتها وصدقها في التعبير عن أهداف ونوايا الأطراف، وليس من المحتم بالطبع انعدام أجندة خفية للأطراف، ولكن المهم حجم ونوعية محتويات تلك الأجندة، وما إذا كانت مجرد ملحق ثانوي لما يعرض صراحة خلال الحوارات، أم أن ما يصرح به مجرد غطاء من المماحكات، ليبقى الخطير والأساسي رابضاً تحت السطح، يراه الجميع طوال الوقت، لكنهم يدورون حوله، فتتحول الحوارات إلى تمثيلية سخيفة، قد تفيد في قتل الوقت، دون أن يبارح أحد مكانه.
فمنظمة حماس مثلاً تريد من المفاوضات أن تحقق لها انتصار إرادتها على المجتمع الدولي، بأن تتظاهر بالمرونة فيما هي لم تبارح مكانها، وفي ذات الوقت تجبر المجتمع الدولي على فك حصاره عليها وعلى الشعب الفلسطيني الرهينة، والجانب الآخر الممثل في الرئيس الفلسطيني يريد إقصاء حماس من الساحة، واستعادة السلطة التي حصلت عليها بالانتخابات الأخيرة، فهي في نظره وفي نظر العالم منظمة إرهابية مطلوب تصفيتها، لكن كل هذا لا يقال على طاولة الحوار، ولهذا لن يصل إلى أي نتيجة، ما دام الأطراف تتناقش فيما لا تعنيه فعلاً، وما تعنيه فعلاً لا تتناقش فيه.
نفس هذا النفاق المفتضح المتبادل يسود الطاولة في لبنان، فجبهة الأكثرية النيابية تعلن مساندتها وتقديرها للمقاومة وسلاحها، والكل يعرف أن ما تعنيه حقيقة عكس ذلك تماماً، وحزب الله يعلن أنه مع المحكمة الدولية لكشف من وراء مسلسل القتل في لبنان، والكل يعرف أن مهمة هذا الحزب المقدسة الآن هي إعاقة تشكيل هذه المحكمة، لأنها إن تحققت ستأتي بالرؤوس التي تحرك أصابعها حزب الله كما تتحرك دمى الماريونيت، كما يعلن حزب الله أنه يبغي المشاركة في حكومة وحدة وطنية بنسبة الثلث المعطل أو الضامن، والكل يعلم أنه يستهدف ليس الإمساك برقبة الحكومة فقط، بل الإمساك برقاب الشعب اللبناني كله في قبضة يده المقدسة، لإقامة دولة الحق الطالبانية الشكل الخومينية العقيدة.
ليس لدى كاتب هذه السطور حلاً يريد أن يشير إليه، يكفل الخروج من المستنقعات التي تغوص فيها المنطقة، لكن عدم وجود طريق مثالي في الأفق لا يعني أن نصمت عن التنبيه أن النهج الذي تنتهجه الآن الرئاسة الفلسطينية والأكثرية النيابية في لبنان لن يذهب بهم إلى أي مكان خارج مستنقعات العنف والإرهاب والكراهية، التي ينضح بها جوف الأرض في لبنان وفلسطين، وترفدها بالرجال والدولارات والفتاوى والفضائيات، روافد شتى من أنحاء عالمنا العربي المناضل ضد ذاته وضد الحضارة الإنسانية.

[email protected]