غواية العوم في بحيرات الدم والبترول
دعونا نقل بشكل مباشر ان اهمية وصايا بيكر الشهيرة حول العراق تكمن في تحديدها الدقيق لمشكلة الثروة والسلطة التي يموت بسببها العراقيون منذ اربعة اعوام. فمخزون البترول العراقي الهائل بحاجة الى ضمانات للتوزيع المتكافئ. والسلطة السياسية على بلد التمر والبترول بحاجة الى ضمانة لاشتراك الجميع فيها بمن فيهم ((ألدّ الاعداء)). هل في هذا ما يغيض أحداً؟ وبعيدا عن المكابرة فإن مشهداً يدمج بين الذباحين ومن يصفق لهم من كل الاطراف، الى جانب الموت المتناسل بنشوة الهستيريا خلال المسافة بين بوابات بغداد، هو تقاتل من اجل الثروة والسلطة مغلف بأساطير دينية ومصالح (العوائل والبيوتات الحاكمة) اليوم. ألسنا بحاجة الى بديهة اخرى؟ ان منطق التخلف السياسي في عالمنا الثالث جعل الاطراف المحلية في العراق ومن يحيط بهم من مؤثرين اقليميين، يعجزون عن تسوية الصراع. ويعني هذا بالنسبة الى امثالي ضرورة تدخل اقوياء العصر وفرضهم مشروع تسوية مدعوم دوليا يضع ضمانات تقاسم للثروة والسلطة في العراق متكافئ رياضيا (ولا استخدم تعبير التقاسم العادل لأنه يخضع لسياسات تأويل وتفسير مخيفة).
ما الذي يجري في البيت الابيض اذن؟
ارجو المؤمنين ان يصلّوا ألف مرة كي يحفظ الرئيس بوش وصايا بيكر عن ظهر قلب ويرددها مع الصقور والحمائم اثناء احصائهم المؤسف للضحايا والخسائر المتوالية.
بديهتان لتسوية كبرى
وصايا بيكر لم تقم إلا بترتيب البديهيات.
اولاها، التحذير من خطر قانون يجري تشريعه في اقليم كردستان يحاول تقسيم الثروة في العراق لا على اساس التكافؤ الرياضي بين عدد سكان الوحدات الادارية بل على اساس الاقاليم او الدويلات الآخذة في التكون. كما ينبه الى ان حرص الاكراد على ضم كركوك (تمتلك ثاني احتياطي عراقي من البترول) سيفجر برميل البارود.
بيكر يدرك ايضا كيف ستتفجر البراميل الاخرى حين يحذو شيعة السيد عبد العزيز الحكيم حذو الاكراد فيضموا البصرة وميسان (الاحتياطي الاول من بترول العراق) الى دويلتهم الموعودة، والنتيجة المهولة للمعادلة... مدن نفط في اقاليم بصلاحيات دول، يحميها تشريع نفطي سيكون من شأنه صناعة امراء بترول يعتمرون العمامة السوداء او العمامة الكردية ويبعثون بصدقة جارية الى المركز الضعيف كي توزع على معدمي (السنة) في اعالي الفرات عبر جمعيات خيرية ربما.
دعونا نحدق في الصورة ولن يكون صعبا ان نرى مسرح الصراع الاهلي، وهو يتعاظم مع كل قانون يمرر في البرلمان العراقي بفارق ضئيل ورغم انف السنة وأياد علاوي، وطبعا رغم انف الكثير من العراقيين امثال كاتب السطور ممن لم يعد يشرفهم ان يكونوا سنة او شيعة او أي شيء من هذا القبيل، خشية ان يضطرهم الامر الى التصفيق لذباح الطائفة هذه او تلك.
يأتي بيكر الآن ليقترح اساس التوزيع المتكافئ رياضيا للثروة وفق عدد السكان، وإيكال ازمة كركوك للتحكيم الدولي كي لا تدخل ثروات النفط المؤكدة والبارزة في ملكية أي من الاقاليم والبيوتات التي ستهيمن عليها (وربما سيشمل الامر مدينة البصرة لاحقا على سبيل المثال). ستكون وصفة بيكر لتوزيع عوائد البترول بضمانة امريكية او دولية ربما، قاعدة متينة لأي مفاوضات مع المحاربين السنة العتاة تسلبهم احد اهم مبرراتهم المؤثرة حاليا (سنتحول الى فقراء).
لماذا الرفض اذن؟ رغم هذا المبدأ البسيط الذي يمكن حسابه بالرياضيات الاولية، الا ان السيدين طالباني وبارزاني رفضا بشدة توصيات العم بيكر، وفي وسعي ان اتخيل السيد عبد العزيز الحكيم وهو يهز رأسه سعادة بموقف الحليفين وهما ينوبان عنه في الدفاع عن مشروع ((امراء النفط المعتمرين للعمائم)).
هذه قاعدة بيكر الاولى ولكن تأملوا معي لوحة من السيرك العراقي الملوث بالدم... فالسيد طالباني يخشى على سيادة العراق اذا ما تحول المقاتلون الامريكان الى مستشارين لدى قطعات الجيش العراقي حسب مقترح بيكر الذي يريد تحويل الامريكان من فرق قتالية الى افواج دعم لوجستي وجوي واستخباراتي تؤهل الجيش الفتي كي ترحل او تتقلص كثيرا حسبما يريد الكونغرس بتشكيلته الجديدة. هذا اعتراض طالباني الاساسي كما سمعنا، مع ان فخامته كان حتى الخميس الماضي يطالب بحماسة (تستحق التقدير)، ببقاء اكثر من مائة الف مقاتل امريكي يهيمنون على الملف الامني، فما الذي حصل يوم الجمعة حين استوعب جيداً ما يرمي اليه بيكر بشأن النفط وكركوك؟
اما البديهة الثانية فتتعلق باقتسام السلطة على بلد البترول، بحيث يجري التعامل مع البعثيين وكل التيارات المؤثرة في الوسط السني العراقي كمواطنين لهم حق المشاركة في الحياة السياسية. (هل هناك من تحدث عن إشراك المجرمين او من توجد ادلة تدينهم بشأن الولوغ في دماء الناس؟). تلكم قاعدة متينة اخرى للتفاوض مع المحاربين السنة تسلبهم كذلك احد اكثر مبرراتهم تأثيرا (التهميش السياسي).
قاعدتان بسيطتان لأي تسوية توزع الثروة والسلطة على نحو يسلب مبررات العنف في وسع الجميع ان يأملوا بفضلهما انهاء الصراع وهو مقبل على سديم تاريخي يبتلع الأمم. المهم في الامر اننا في مرحلة ما بعد وصايا بيكر سنعرف من يبحث عن قواعد للسلم الاهلي يمكنها انتاج عراق معافى، وليكن الثمن الاطاحة بأحلام الطالباني والحكيم البترودولية، لنحدد اولئك المتوارين في ظلام الفاشية الذين يعملون على اشعال برميل البارود العراقي مرة واحدة والى الابد.
العم خليل زاد ومحنة الاكراد
شكرا لمن نظموا لنا البديهتين. لكن المشكلة ان مناقشة بديهتي بيكر ستعني التخلي عن أحلام السادة، طالباني، بارزاني، عبد العزيز الحكيم، في امارات بترولية. كما ستعني القضاء ربما على حلم بقايا الصداميين بالعودة الى سلطة من حجم ولون معين او حرمانهم من الالتذاذ بقادسية سوداء أخرى، اذا ما بلغ العراق الحالي نقطة اللاعودة. ويحي، وهل توحد الفرقاء أيضا، احلام مشتركة؟
ارجو ان لا اكون ظلمت احدا، ولا سيما الطرف الكردي الذي رأيت فيه بريق امل لعراق علماني يتيح لي الجلوس مرة اخرى في احدى حانات الرصافة، ارقب طيفاً او همساً للاصمعي وأبي العتاهية.
لنأمل ان تدفع الاسابيع القادمة الجميع الى الحديث بصراحة عن مبادئ للتفاوض اصبح ممكنا اليوم ان تحظى بضمانات ودعم دوليين كحل مصمم بعناية، خاصة حين يفهم الجميع ان لا مناص من اللقاء عند منتصف طريق المطالب الخيالية.
ليصلّ المؤمنون، وقبل ان تتحول بحيرات النفط الى برك تفيض بالمزيد من الدم والأنين، كي ينجح العم بيكر في تغيير المسار، ويكتب لايران وحلفائها والعرب ومن يحرصون عليه، التخلي ولو لمرة واحدة عن تخلفنا السياسي المدجج بالاجساد المفخخة، وأن تسدد خطى العم خليل (زاد) في إفهام الاكراد ان العديد من العقلاء في امريكا بدؤوا يتحمسون لبديهات بيكر.
التعليقات