-1-

غمر العالم العربي بالأمس فرح كبير بنشر تقرير لجنة بيكر ndash; هاميلتون. واعتبر العرب من اليمين واليسار والوسط أن هذا التقرير هزيمة لأمريكا ونصر للعرب، وخاصة العرب الذين وقفوا ضد غزو العراق في 2003. مع ملاحظة أن هذا الفرح الغامر جاء قبل نشر تفاصيل هذا التقرير، وقبل أن يقرأ أي عربي أي حرف من هذا التقرير. فهكذا نحن العرب، نرفض قبل أن نقرأ، ونقبل قبل أن نفهم، ونعارض قبل أن نعلم، ونوافق قبل أن نحلل. وكما قال عنا طه حسين منذ أكثر من نصف قرن: الغرب يقرأ ليفهم، ونحن نفهم لنقرأ! ونحن كشعوب عربية بدائية لدينا تجاه الآخر وأفكار الآخر مواقف مسبقة وجاهزة، بفعل نزعة عصبية البداوة العربية التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، والتي كانت وما زالت متأصلة فينا، ولم تستطع أن تمحوها أجيال من الليبراليين بدءاً من جمال الدين الأفغاني وانتهاءً بمحمد أركون.

-2-

لا أنكر، بأن ما جاء في تقرير بيكر ndash; هاميلتون كان مفيداً للإدارة الأمريكية وللنخب السياسية العراقية على السواء. ولكن لا بد من التأكيد أيضاً، بأن ما جاء في هذا التقرير لم يكن جديداً. فكلنا نعلم التقصير الأمريكي في العراق، وكيف أن الأمريكيين اعتبروا العراق (وسطاً وجنوباً فقط) خلال الأربع سنوات الماضية الطفل الرضيع المدلل، الذي يجب عدم فطامه عن حليب أمه بعد تسعة أشهر كما حال الأطفال الآخرين، وانما تمتد به سنوات الرضاعة إلى ثلاث أو أربع سنوات، وربما أكثر. وبذا، يبقى في حضن أمه، يرضع من ثديها الدافيء والمدرار. وأن النخب السياسية في العراق نعمت، واستراحت، وفرحت، واستمرأت هذا الوضع، وراحت في بغداد، تنهمك في مصالحها الخاصة، وتحقق مكاسبها الشخصية والحزبية على حساب مستقبل العرق، وتهمل مصالح الوطن ومسؤولياته. ولذا، فقد فزعت، وثارت، وغضبت معظم هذه النخب، عندما قررت أمريكا بأن تُحدد مدة الرضاعة، وتستعجل الفطام، حيث لم يعد في ثدييها من حليب يكفي لمزيد من الرضاعة، ولم يعد في صدرها من صبر يطول.

-3-

إن ما أغفله التقرير، بحيث أفقده الكثير من مصداقيته، هو عدم ذكره للتخاذل الأمريكي، والضعف الأمريكي، والتهاون الأمريكي، تجاه منبعي الارهاب في الشرق الأوسط، وتجاه تدفق الارهاب عبر الحدود العراقية. وكلنا يعلم، بأن أمريكا تغافلت، أو لم تستطع أن تفعل شيئاً حازماً ورادعاً لتجفيف، أو تدمير ينابيع الارهاب لا في العراق، ولا في أفغانستان، ولا في لبنان. فهي وقفت متفرجة فقط، تطلق التصريحات الحريرية المهددة والمُهدْهِدة لسوريا وإيران، منبعي الارهاب في الشرق الأوسط الآن. وهما المنبعان اللذان يصدران الارهاب إلى كل دول المنطقة، وعلى رأسها العراق ولبنان والسعودية. فقد نشرت جريدة quot;السياسةquot; الكويتية يوم الجمعة الماضي 8/12/2006 تقريراً مطولاً لمراسلها في لندن، تحدث فيه، كيف أن سوريا الآن تُجيش الارهابيين، وتدربهم، وترسلهم إلى العراق ولبنان والسعودية. كما تحدثت تقارير مختلفة صدرت من بغداد وبيروت وعمان، عن دور ايران المتعاظم في العراق، وكيف تقوم إيران بالتعاون مع سياسيين وعسكريين عراقيين في تدمير العراق يومياً. فكلٌ من سوريا وايران لم تستطيعا النيل من quot;الفيلquot; أو quot;الحمارquot; الأمريكي، فتسابقوا وتشاطروا على quot;البردعةquot; كما يقول المثل العربي المعروف. فهم لم يقدروا على النيل من أمريكا في أرضها، فجاءوا يحاربونها على أرض العراق، وأرض لبنان كذلك.

-4-

بغض النظر عن المعارضة الكردية القوية لتقرير بيكر ndash; هاملتون لأسباب وجيهه، أظهرتها الزعامة الكردية، وشرحتها بالتفصيل للرأي العام على لسان رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني، وعلى لسان كامران قرة داغي الناطق الرسمي باسم رئيس الجمهورية العراقية جلال الطالباني، وبعيداً عن المعارضة الكردية لهذا التقرير، فإن هذا التقرير يعتبر ناقصاً غير كامل بالمنظور العام. فهو يتحدث عن عراق الوسط والجنوب فقط. ولا يتحدث عن شمال العراق وكردستان العراق. ذلك أن اللجنة التي أعدت هذا التقرير لم تزر اقليم كردستان، ولم تتحدث إلى المسؤولين هناك، ولم تتعرف على مشاكل هذا الإقليم، ولم تُشرك الزعماء والمسؤولين الكُرد في اعداد هذا التقرير. بل إن الرسالة التي بعث بها مسعود برزاني رئيس اقليم كرستان إلى جيمس بيكر بخصوص كثير من القضايا التي تهم اقليم كردستان، لم تؤخذ بعين الاعتبار، ولم يُشر اليها في التقرير.

-5-

لقد ركّز تقرير بيكر- هاملتون على نقطتين أساسيتين هما:

1- تدريب أفضل للقوات العراقية المسلحة وقوات الأمن العراقي. وهذا مطلب ملح، ولا جديد فيه . فالكل يشعر بحاجة القوات العراقية المسلحة والقوات الأمنية إلى مزيد من التدريب المكثف، وإلى الجديد والحديث من السلاح والعتاد. ولكن التقرير نسي أن يذكر أهمية تدريب القوى السياسية أيضاً على كيفية ادارة دفة الحكم في العراق. فقد أثبتت السنوات الأربع الماضية، أن العراق يفتقد إلى النخب السياسية العربية الماهرة والحاذقة في ادارة دفة الحكم. وأن الذين تولوا الحكم في العراق، من العرب السُنَّة والشيعة في السنوات الماضية، لم يسبق لهم أن مارسوا الحكم الديمقراطي قبل ذلك، وكانت تنقصهم الكفاءة السياسية العالية. كما أثبتت السنوات الماضية، أن الفساد السياسي والمالي قد استشرى بين النخب السياسية أكثر مما كان عليه أيام الطاغية المخلوع، كما قال بالأمس كوفي عنان. وهذا ليس مستغرباً على بلد كالعراق، عاش قرون طويلة يرزح تحت الاستعمار والديكتاتورية، منذ الاستعمار العثماني على العالم العربي والعراق عام 1517 ، ثم الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 ، ثم العهد الملكي عام 1921 ، ثم العهد الجمهوري عام 1956 ، فحكم البعثيين عام 1963 ، الذي امتد حتى 2003. وطوال هذا العهود الممتدة لم تُتح للقوى العراقية السياسية الديمقراطية الحرة والنظيفة والوطنية، أن تنشأ وتتربى وتبرز. فكان القمع، والاضطهاد، والسجن، والقتل، والنفي للبراعم السياسية الوطنية الديمقراطية العراقية، هي أدوات ومظاهر هذه العهود السوداء الغابرة.

2- دعا التقرير إلى ضرورة مواكبة استراتيجية ديبلوماسية قوية لعملية تحرير العراق. وتعني هذه العبارة أن يتم التحاور مع سوريا وإيران، وهما الذئبان المفترسان الرئيسان الآن في العراق في غياب نواطير العراق وحراسه. فجيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكية السابق، وصاحب اليد الطولي في اعداد هذا التقرير، معروف عنه أنه أبعد ما يكون عن الواقعية السياسية، وأنه صاحب منهج سياسي معروف في امريكا، وهو منهج الديبلوماسية أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً. وأنه لم ينجح في أي مهمة ديبلوماسية تولاها، وعلى رأسها مشكلة النزاع في الصحراء الغربية بين المغرب والبوليساريو حيث استقال من هذه المهمة عام 2004. وكان بيكر أول المعارضين لغزو العراق عام 2003 . وكان من قبل أول المعارضين في ادارة بوش الأب التي قامت بقيادة حرب الخليج 1991 لاستمرار الزحف العسكري إلى بغداد وخلع صدام حسين في ذلك الوقت. كما أنه كان وزير الدفاع في عهد ريغان عام 1985 ووزير الدفاع في عهد بوش الأب 1989 -1992. وكان من خلال هذين المنصبين وراء خذلان أمريكا للكُرد في حربهم ضد الطاغية المخلوع عام 1988 ، وتخلّي امريكا عنهم، وترك الكُرد فرائس لذئاب صدام ووحوشه وطغمته في حلبجة والعمادية وبهدينان في 1988، وسبي نساء الكُرد بفتاوى شرعية من شيوخ السُنّة وفقهاء السلطان المخلوع آنذاك. فكما خذل الأمريكيون الكُرد عندما ارسل الزعيم الراحل مصطفى البرزاني رسالته المعروفة إلى الرئيس كارتر في 10/3/1973 ، يحذره فيها من الإبادة الشاملة التي يتعرض لها الكُرد، ولم يجب كارتر على هذه الرسالة، لأن المؤامرة الدولية كانت تحاك على الكُرد من قبل شاه إيران وكارتر آنذاك، فكذلك فعلت أمريكا في خذلانها للكُرد عام 1988 ، وسكوتها عن جرائم الطاغية صدام في كردستان، ارضاءً لغرور الطاغية.

واليوم يعود بيكر من خلال أحلامه الفاشلة، وتصوراته الخرقاء، ومثاليته السياسية، التي لا تجدي مع الذئاب المتربصة بالفريسة العراقية، ليبشرنا في تقريره بالحل السحري للمأزق العراقي، وهو ضروة بدء المحادثات مع سوريا وإيران. وهو يعلم علم اليقين بأن سوريا لن تقبل بتهدئة الوضع العراقي ورفع يدها عن العراق إلا بثمن غال، وهو عودتها إلى لبنان عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ، كما كانت قبل عام 2005. وأن إيران لن تقبل برفع يدها عن العراق إلا بسكوت أمريكا الكامل والمطبق عن مشروعها النووي الذي سينتهي بالحصول على القنبلة النووية، وهي بمثابة المهدي المنتظر، كما قلنا في مقال سابق.

فهل لدى أمريكا الاستعداد لدفع هذه الأثمان الغالية؟

وبدون ذلك سيظل هذا التقرير حبراً على ورق ومضيعة للوقت.

فأين الدواء الشافي في روشتة بيكر- هاملتون؟