لم تكن المرة الأولى أو العاشرة التي يسقط فيها عمال البناء الفقراء في مدن العراق المختلفة، وفي ساحة الطيران ببغداد تحديدا، ضحايا للإرهاب لتتطاير أشلاؤهم في الهواء مرعبة بذلك الناظرين والمشاهدين، ومنزِلة الكوارث بأهلهم وذويهم، ولن تكون الأخيرة إذا ما استمرت هذه الحكومة quot;المنتخبة ديمقراطياquot;، على نهجها الحالي الذي يتسم بالإهمال أو التساهل مع الإرهابيين ومساعديهم والمتسترين عليهم والمتعاطفين معهم، وإن لم تتخذ خطوات عملية مدروسة وجادة لمحاربة الإرهابيين والقتلة المأجورين وإنقاذ أرواح الناس وممتلكاتهم، خصوصا العمال الفقراء في المساطر وأماكن العمل. لم يهتم أحد منذ عام 1963 حتى الآن للفقراء من أبناء الشعب العراقي المظلوم المبتلى بالمصائب والسياسيين الفاشلين، رغم أنهم يمثلون الأغلبية في المجتمع. فأفراد الحكومات المتعاقبة مهتمون فقط بأنفسهم وأقاربهم وحاشياتهم والمقربين من أتباعهم وليس بمن انتخبهم وأوصلهم إلى كرسي الحكم من أبناء الشعب العراقي الصابر، من العمال والموظفين والفلاحين والكسبة الذين تحدوا الموت وأدلوا بأصواتهم إلى من اعتقدوا أنهم سيحمونهم من الإرهابيين والطائفيين الحاقدين، وسيحسِّنون من مستوى حياتهم، وسيأتون لهم بالكهرباء والخدمات والوظائف. إنها كارثة حقيقية لم نكن نتوقع أنها ستحدث في دولة ديمقراطية، ولكن أين منا الديمقراطية ونحن نصر على تعيين الأقارب والأتباع والمتملقين في مواقع المسئولية بدلا من المتخصصين والمخلصين من ذوي الخبرة والكفاءة!

مرة أخرى يأتي إرهابي مشحون بالكراهية للناس العاديين، ولا يقيم وزنا للحياة وليس لديه قيم أخلاقية أو إنسانية أو دينية سليمة، مدفوع من جهات عربية وquot;إسلاميةquot; quot;شقيقةquot; ملأ الحقد عقولها وقلوبها وأعمى بصيرتها كي يقتل المئات من الفقراء العراقيين الذين خرجوا في الصباح الباكر على باب الله كي يطعموا أهلهم وذويهم. ومرة أخرى تعجز الحكومة quot;المنتخبة ديمقراطياquot; عن الإتيان بحل، أي حل، حتى وإن كان تقديم معلومات أمنية للعمال أو تنظيم مساطر العمل وتعيين أماكن أمينة لها وتسجيل العمال وأصحاب العمل وإصدار هويات لهم كي يُعرف الشخص الحقيقي من الكاذب والفقير الباحث عن لقمة العيش من الإرهابي القذر الباحث عن quot;أقصر الطرق إلى الجنةquot;، أو على الأقل توجيههم للانتظار في مكان آمن لا تدخله السيارات المفخخة كي يأتيهم أصحاب العمل الحقيقيون ليستأجروهم ويأخذوهم إلى مواقع العمل، وما هذه المهمة بصعبة على حكومة تدعي تمثيل الشعب والحرص على مصالحه، لو كان هناك شعور حقيقي لدي المسئولين بآلام الناس ومشاكلها. ألا تعتقد الحكومة أن من واجبها أن تسارع لحماية الفقراء بأي وسيلة حتى لا نخسر المزيد من الشباب الأبرياء الذين يمثلون أمل العراق ومستقبله؟ أليست هذه المهمة من واجبات وزارة الداخلية أو وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (باعتبار أن شأن العمال يهمها) أو وزارة البلديات والأشغال العامة (باعتبار أن انفجار السيارات المفخخة يدمر الطرق والأرصفة) أو وزارة البيئة (باعتبار أن الانفجارات تلوث البيئة) أو حقوق الإنسان (باعتبار أن القتل بالتفخيخ هو انتهاكquot;صارخquot; لحقوق الإنسان)؟ أو حتى وزارة quot;الأمن الوطنيquot; أو quot;مستشارية الأمن القوميquot; أو أي هيئة أخرى من الهيئات الكثيرة التي نسمع فقط بأسماء رؤسائها ومديريها الذين يحرصون دائما على وضع العلم quot;العراقيquot; (المصري سابقا) على مكاتبهم وخلفهم، خصوصا عند المقابلات التلفزيونية، كي يتأكدوا حقا (عند مشاهدتهم للإعادة) أنهم أصبحوا مسئولين quot;قد الدنياquot;، لكننا لا نسمع بأي نشاطات أو إنجازات لهذه الهيئات والمؤسسات والوزارات أو أي خدمة يقدمونها للمواطنين العاديين الذين لم يعودوا يطالبون بغير الأمن في الوطن.

في كل بلدان العالم، ديمقراطية كانت أم دكتاتورية، ملكية أم جمهورية، ثورية أم تقليدية، إسلامية أم علمانية، غنية أم فقيرة، متقدمة أم متخلفة، تتلخص مهمة الحكومة بحماية الناس وتنظيم شئونهم وحل مشاكلهم وتحسين مستوى حياتهم ومنع وقوع الكوارث عليهم، وإن حصلت مشكلة من نوع ما فإنها لن تتكرر لأن هناك من يجد لها حلا بسرعة فائقة ويمنع حدوثها مرة ثانية، إلا في بلدنا المنكوب بكل شيء، من مكوناته التي تخندقت ضد بعضها البعض بهدف تصحيح التاريخ الإسلامي، إلى مسئوليه المشغولين بأعمالهم الخاصة وطموحاتهم الشخصية وخلافاتهم الطائفية والحزبية، إلى الفساد الذي أصبح سائدا في كل دوائر الدولة الصغيرة منها والكبيرة. فبعد دكتاتورية صدام المقيتة، جاءتنا ديمقراطية الفوضى والانفلات وضياع المسئولية. لو كانت هناك مسئولية أو محاسبة على التقصير لتوقفت هذه الجرائم منذ زمن بعيد، أو على الأقل لما تكرر ما حدث في ساحة الطيران ومدينة الحلة ومدينة الثورة وباقي المدن الفقيرة، ولما قتل المئات حتى الآن من المتجمعين قرب الدوائر الحكومية للتقدم إلى الوظائف أو لتسلم الرواتب أو أي مهمة أخرى. ولن تكون هناك محاسبة إن بقي الوضع على ما هو عليه الآن، لأن المسئولين أهل وquot;حبايبquot;، فكيف يحاسب المسئول الأعلى أخاه أو ابنه أو زوجته أو قريبه الذي جاء به إلى المنصب! أو أنهم متنافسون يتمنون فشل منافسيهم حتى وإن كان على حساب مصالح الناس وأرواحهم، أو أعداء، يتربصون ببعضهم البعض ويتمنون لهم الموت والفناء. إنه مأزق العراق القاتل الذي يجب أن يخرج منه بأي وسيلة وأي طريقة، فلا تهمنا ولن تهمنا الهوية المذهبية أو العرقية أو المناطقية للمسئول ولن يوهمنا أحد بأن الأفضل للشعب العراقي أن يأتي مسئول من هذه الطائفة أو تلك، أو هذا الحزب أو ذاك، أو هذه المنطقة أو تلك، بل المهم أن يكون هذا المسئول ذا ضمير وقيم أخلاقية وإنسانية، وكفوءا قادرا على تحمل المسئولية ومخلصا يهمه تقدم البلد ومصالح الناس وأرواحهم وسعادتهم وليس انتهازيا يريد الوصول إلى أي منصب في السلطة بأي وسيلة كي يتسلط على الناس أو يثري على حساب الآخرين، أو حاملا لعقدة نقص ساعيا لسدها بتولي منصب معين.

لم تعد الأمور تتحمل الجدل السياسي أو الخلاف المذهبي، ولم يعد الشعب العراقي قادرا على الانتظار أو الغفران وإيجاد العذر لمسئولين أقل ما يمكن أن يقال عنهم إنهم لم يتمكنوا من تأدية واجباتهم التي كلفهم بها الشعب في الانتخابات الماضية والتي قبلها، وقد آن الأوان لمراجعة النفس والتخلص من العقد الطائفية والطبقية والمناطقية والعنصرية كي نخدم الناس ونحافظ على أرواحهم. إنها مهمة مقدسة تحتاج إلى مسئولين مخلصين محايدين يهمهم الإنسان العراقي وليس فقط مصالحهم المادية ومستقبلهم السياسي. المسألة أصبحت مسألة حياة أو موت، سلام أو إرهاب، استقرار أو فوضى، بقاء أو فناء. أتمنى على رئيس الوزراء أن يحاسب وزراءه حسابا عسيرا على هذا التقصير، وأن يكشف للشعب العراقي المتواطئين مع الإرهاب، المحليين منهم والإقليميين، وعلى الوزراء أن يحاسبوا وكلاءهم ومستشاريهم والمديرين العاميين في وزاراتهم على أي تقصير أو إهمال، وعلى هؤلاء أن يحاسبوا من هو دونهم في المسئولية كي نصل معا إلى حلول لمشاكلنا. يجب أن يُحاسب المقصرون والصامتون، بل وحتى غير المتعاونين واللاأباليين، تماما كما يحاسب المسئولون المباشرون عن هذه الجرائم البشعة التي يندى لها جبين هتلر وبول بوت. وليس لدي أدنى شك أن مرتكبي هذه الجرائم يهدفون إلى إبراز عهد صدام بأنه أفضل من عهد من جاء بعده، وكي تضيع الجريمة ويختلط الحابل بالنابل ويتساوى الجميع في العجز عن تحقيق تغيير حقيقي في حياة العراقيين. إنه لعار ما بعده عار على مؤسسات الدولة الأمنية أن تعجز عن كشف أي من هذه الشبكات الإرهابية التي تخطط وتنفذ جرائمها بكل حرية دون أن نتمكن من كشفها أو حتى إعاقة تنفيذها.

إن الفتاوى القادمة من عبر الحدود التي تجيز قتل العراقيين وتثير الفتنة بينهم قد وصلت مرحلة لا يمكن السكوت عليها، وعلى الأمريكيين أن يعلموا أن quot;أصدقاءهمquot; في المنطقة هم الذي يحاربونهم في العراق منذ أربع سنوات وهم الذين يفتون بقتل العراقيين والأمريكيين وغيرهم ويبثون الفرقة بين الناس كي تشتعل المنطقة كلها بأتون نار طائفية لها أول وليس لها آخر. يتوهم هؤلاء أنهم سيربحون الحرب الطائفية متناسين أن الحريق لن يبقي شيئا وأن اتجاه النيران لا يمكن السيطرة عليه وقد يتغير حسب اتجاه الريح. ليس من المعقول أن حكومة المملكة لا تستطيع أن تضبط فتاوى تحرض على القتل خصوصا وأن بعض مطلقي هذه الفتاوى كانوا في السجن لفترة طويلة بسبب آراء وفتاوى أطلقوها سابقا وهددت أمن المملكة نفسها، فكيف يُسمح لهم بتهديد أمن العراق وإثارة الفتنة الطائفية بين أهله؟ وهل هذه الفتاوى في مصلحة سنة العراق حقا؟ أم أنها تحرض على القتل الذي لن يسلم منه أحد؟ الشيعة والسنة أبناء وطن واحد وباقون في هذا الوطن إلى أبد الدهر ولن تتغير المعادلة الطائفية أو الديمغرافية في المنطقة نتيجة لحرب طائفية، ولا يمكن بقاء الأحوال كما هي دائما فهذا هو ديدن الحياة والدول. المطلوب من سياسيينا سنة وشيعة ضبط الشارع حتى لا يتأثر بالفتاوى العابرة للحدود خصوصا وأن علماءنا من الطائفتين قد وقعوا وثيقة مكة في رمضان الماضي واتفقوا على تحريم الدم العراقي من كل القوميات والطوائف.

لقد عاش الشيعة في ظل دول سنية والسنة في ظل دول شيعية على مر التاريخ، وعاش الناس من الطائفتين مع بعضهم البعض منذ بدء الإسلام حتى الآن ولم يحدث بينهم ما يحدث اليوم في العراق من أعمال لا يمكن تفسيرها إلا بالجنون. إن الاستسلام لليأس الإرهاب ليس حلا لأي مشكلة، بل سيفاقم التوتر في المنطقة ككل ويعرضها للانفجار، لذلك فإن هناك حاجة ماسة لتضافر جهود محبي الخير والسلام في المنطقة ككل والعالم أجمع لدرء الفتنة في مهدها ومواجهة قوى الشر والظلام التي تستهدف الجميع والتصدي لها بقوة من أجل إلحاق الهزيمة بها والقضاء عليها تماما.