شاهدت قبل أيام ندوة تلفزيونية عربية عن تقرير بيكر ـ هاملتون، جلبت نظري فيها كثرة المغالطات. فمقدم البرنامج يعرض التقرير وكأنه تقرير الإدارة الأمريكية مع أنه تقرير توصيات غير ملزمة للإدارة. ومن جهة أخرى، راح المقدم يتحدث عن quot;رفضquot; بوش للتوصيات مع أنه أعلن انفتاحه على العديد من توصياته باستثناء الموقف من سوريا وإيران. أما المتحدث السوري، فراح يطنطن بلا انقطاع عن quot;الانتصارquot; السوري في quot;إجبارquot; أمريكا أخيرا quot;على الاعتراف بالدور السوري الإقليمي الرئيسيquot;!! وكان هذا المتكلم يتحدث بعنجهية انتصارية منتفخة وكأن أمريكا خسرت حربا مع سوريا. كانت المغالطات الأخرى والمتعمدة هي عن التدخل السوري والإيراني في العراق، وهو تدخل برهنت عليه مئات الوقائع منذ سقوط نظام صدام. ومنذ يومين فقط أكد السيد موفق الربيعي أن 90 بالمائة من الإرهابيين العرب يتسللون من سوريا.
إن التقرير المذكور يتقدم بجملة توصيات لإدارة بوش عن معالجة الوضع العراقي المتدهور، وهو لا يعتبر quot;تدخلا في شؤون دولة مستقلةquot;، كما صرح بعض المسؤولين العراقيين، لأن الأزمة العراقية الساخنة والمتفاقمة تحتاج معالجتها للجهود الدولية ولأمريكا بالذات، التي هي طرف أساسي اليوم في الشأن العراقي بحكم وجود قواتها الكثيفة وخدماتها وتضحياتها، وحيث يهرع الزعماء العراقيون من تيارات مختلفة لطلب بقاء تلك القوات مدة أخرى لحين استكمال بناء القوات العراقية بما يضمن كفاءتها القتالية.
إن حكومة السيد المالكي لم تنجح مع الأسف في تخفيف المأساة الأمنية وفي بغداد بالذات، وهي لم تستطع تنفيذ وعودها المتكررة عن حل المليشيات في حين أن عصابات الصدر الإرهابية الطائفية تواصل في بغداد عمليات التطهير الطائفي مثلما تمارسها عصابات القاعدديين والصداميين. لقد صار الموت والدمار والظلام خبزا يوميا للمواطنات والمواطنين ولأطفالنا.
إن العراق اليوم يتعرض لسلسلة حروب متداخلة إرهابية سياسية وإسلاموية [ من أجل جمهورية طالبانية] وحرب طائفية. هذه حروب متداخلة، ضحاياها كل يوم المئات من العراقيين، ناهيكم عن قوات التحالف التي لولا وجودها لتفتت العراق.
إن المسؤولين العراقيين يجب أن يكونوا واقعيين ومتواضعين ويضعوا مصالح البلد وكل الشعب فوق كل حساب. إن الوقائع تقول إن الوحدات العسكرية القادرة لوحدها على مقارعة الإرهابيين من الداخل والوافدين من الخارج هي تمثل الأقلية بين الوحدات. والوقائع تقول إن قوات الشرطة خاصة موبوءة بعناصر المليشيات الحزبية التي تتلقى أوامرها من أحزابها. رغم كل هذه الوقائع يصر المسؤولون الحكوميون على وجوب نقل كل المسؤوليات الأمنية للقوات العراقية بأسرع ما يمكن، أي لقوات ضعيفة ومخترقة، كما يحتجون على وضع الحكومة أمام الأمر الواقع عن المسألة الأمنية، أي تحديد فترة شهور ليس إلا لإلزامها بتنفيذ وعودها المتكررة. لقد سلمت القوات البريطانية في العام الماضي للقوات العراقية قاعدة عسكرية كبرى مجهزة بأحدث المعدات والأجهزة الدقيقة والحديثة. فماذا حدث؟ نهبت المليشيات كل ما في القاعدة وتركتها قاعا صفصفا!
لقد كررنا مرارا كغيرنا من الكتاب العراقيين بأن الوضع الحالي يتطلب اعتبار قضية الأمن وسيادة القانون أولى المهام العاجلة وعلى رأس كل مهمة أخرى، ووجوب اتخاذ كل التدابير اللازمة لضرب الإرهاب ووقف الحرب الطائفية الضارية، بما في ذلك التفكير في حكومة مؤقتة ومستقلة وقوية ومختصرة لتقوم بمهام الأمن والخدمات خلال فترة تحدد لها. إن أي حديث اليوم عن الأقاليم الجديدة أو quot;العملية الديمقراطيةquot; يعتبره المواطن مجرد ترف ما دام يتعرض وعائلته كل يوم للموت المبرمج والعشوائي، ناهيكم عن عيشه تحت الظلام منذ سنوات جراء انقطاع الكهرباء، بينما النفط يهرب نهارا جهارا ومئات الملايين تنهب باستمرار ودون انقطاع.
لم تنجح الحكومة مع الأسف بسبب قيامها على أساس المحاصصة الطائفية، الذي سمح في أحيان كثيرة بوضع الرجل غير المناسب في مراكز خطيرة. قارنوا مستوى أكثر الوزراء المتعاقبين بمعظم وزراء العهد الملكي ووزراء ثورة 14 تموز، لتجدوا البون شاسعا، والسبب طغيان المعايير الفئوية والحزبية في التعيين. صدام كان يختار الوزراء على أساس الولاء لشخصه منذ احتكاره للسلطة منفردا، أما اليوم فإنها معايير الطائفة والحزب والعلاقات الشخصية. من حق تقرير بيكر وهاملتون التوصية [ اقتراح] بوضع الحكومة العراقية أمام مسؤولياتها ، وإلا فالوضع يتطلب حلولا عاجلة أخرى.
مهما يكن، فالوضع أكثر من خطير، وليس في الأفق حل قريب وواقعي، أي كما يقولون quot;ليس هناك أي طريق مضمون للخروج من الأزمة العراقية.quot; أما ما يسمى بالحوار مع إيران وسوريا فلا يبدو لي ذا نتائج إيجابية غير وعود معسولة وماكرة متكررة تعطى للمسؤولين العراقيين في كل مرة فيتحدثون عنها، بينما الممارسة هي العكس. إيران لن تساوم حول العراق إلا بضمان الصمت الدولي عن قنبلتها النووية، التي ما أن تمتلكها حتى تصبح في وضع تتنكر معه لكل التزاماتها؛ وسوريا لن تقبل بأقل من لبنان لتقليص تدخلها في العراق. أما quot;مؤتمر المصالحةquot; فيظهر من التقارير الصحفية الغربية أن مطالب الناطقين باسم منظمات quot;المقاومة quot; لن يرضوا بأقل من وضع جدول زمني لانسحاب القوات الحليفة عاجلا، وهو ما تعارضه اليوم معظم القيادات السياسية والحكومية، كما يطرحون مطالب تعجيزية أخرى بحسب تلك التقارير. فهل سيأتي المؤتمر الإقليمي المتفق عليه بمعجزة ما ؟