قرب ساحة الطيران وسط بغداد، يقف مئات العمال الفقراء، كعادتهم كل صباح، في انتظار سانحة رزق. عمال معدمون، تركوا وراءهم عيالاً وأُسراً كبيرة، على أمل الحصول على فرصة عملٍ عابرة، تأتيهم من أي مقاول أو مُتعهّد، يجيئهم هذا بسيارته، ويأخذهم إلى عمل يومي شاق، مقابل أجر منخفض، يقيهم غائلة الجوع لا أكثر. وأثناء وقوفهم العاري من الحماية [ فمن يحمي الفقراء المعدمين ! ] تقف بجانبهم سيارة انتحاري، فيتحلّقون حولها، وخلال الكلام، يُفجّر الانتحاري سيارته، فيقتل منهم العشرات ويجرح ربما المئات ! تتطاير أشلاؤهم في جهات المكان الأربع، نُتفاً من لحم ولطخاتٍ من دم. ثم تأتي قوى وزارة الداخلية القريبة، لتنظّف المكان، من آثار المجزرة، ويذهب كلٌ إلى حال سبيله، السابلة وأفراد الشرطة والمتجمهرون من أصحاب المحلات، بعد أن تعوّد العراقيون على أمثال هذا المشهد.

مشهد تكرّر عدة مرات، في ذات المكان، دون أن تقدر وزارة الداخلية العراقية على منعه. يموت مَن يموت من العمال الغلابا، ويُصاب مَن يُصاب، فلا يأبه بالميت ولا بالمصاب أحد. تُرمّل زوجاتهم ويُيتَّمُ أولادهم، وينقطع رزقهم، ويخيم شبح الوحشة على بيوتهم، ربما للأبد.

ولأني عشتُ هذه التجربة، سنوات من عمري، وأعرفها على جلدي ربما أكثر من زملائي الكُتاب _ أعرف أحوال هذه الفئة من العمال وشجونهم وهمومهم. إنهم يحيون يوماً بيوم، وما حياتهم سوى ترقيعٍ في ترقيع. بؤساء أقسى درجات البؤس. وطيبين أقصى درجات الطيبة. وما في يدهم ليس لهم. فهم يعيشون على فيض الكريم، وما يأتي به الكريم مقسوم على الكرماء مِن زملائهم، الذين بخُل عليهم الدهر وتصاريفُ الأيام الصعبة.

لكننا في فلسطين، لم يكن يتهدّدنا انتحاري يهودي مثلاً. فمن حسن الحظ أنّ اليهود لا يعرفون هذا النمط المتوحش من الثقافة. كنا نقف في عدة مواقف للعمال، في موقف أبو رجب في يافا، أو موقف العمال في بات يام أو تل أبيب أو ريشون لتسيون، وكان يأتي المقاولون اليهود، فنتبغدد عليهم، ونطلب منهم ما نشاء من سعر. بمعنى كان حالنا آنذاك، أفضل بما لا يقاس من حال رفاقنا العمال العراقيين الآن.

في ريشون لتسيون، حدثَ ذات مرة، أن جاءنا فاشي متطرف وأطلق رصاصات بندقيته علينا، فقتل عامليْن، وجرح آحاد. لتقوم الدنيا بعدها، وتندلع المظاهرات في الضفة وغزة، فلا يتكرر هذا المشهد بعد ذلك أبداً. حادثة وحيدة، طوال أكثر من ثلاثين سنة، من احتكاك العمال الفلسطينيين بالمجتمع الإسرائيلي. حادثة وضعت الحكومة الإسرائيلية في أقصى درجات الحرج والإدانة. فلم تجد ما تقوله أمام العالم، سوى أنّ الفاعل معتوه ومريض نفساني.

لكن ليست هذه هي القصة. فالقصة هي فيمن يُرسل هؤلاء القتلة، حتى إلى مواقف العمال البؤساء، ليقتلهم شرّ قتلة. القصة في هذا الذي تجرّد من أي حس إنساني، فانقلب إلى وحش آدمي أين منه وحوش الغاب. القصة في المبررات التي تدفع القاتل المجرم، إلى اقتراف أبشع الجرائم. القصة في الدافع وراء هذه القذارات. في المسوّغ العقائدي. في الهدف والغاية. في الشيخ أو أمير الجماعة، الذي يأمر فيُطاع.

ولما كنا نعرف أنّ ثمة دوافع وحوافز دينية مذهبية وراء هذه الأعمال. فلنناقش هذه الدوافع. لكنْ هل حقاً يمكن مناقشة أمثال هؤلاء القتلة ؟ وهل حقاً يمكن إقناعهم ببؤس ما يحملون من جنون بين جوانحهم ؟ لا أظن. فلا حوار ولا سجال ولا تنقيب ولا سؤال ينفع معهم. فقط ما يجدي معهم هو أن يُزالوا من على وجه الأرض، بوصفهم عارَها، لا أقل. إنهم فاشيون لا أقل. مجرمون لا أقل. سواء من ينفّذ أو مَن يقف وراء المُنفِّذ. يتسترون برداء الدين. فأي دين هو هذا بل أي مذهب هذا الذي يبيح قتل الأبرياء وتمزيقهم إلى أشلاء في عمليات تفخيخ لا مثيل لبشاعتها ووحشيتها في العالم أجمع ؟
أي دين وأي مذهب ديني يسمح للقتلة والمأجورين بتجريب كل جنونهم المنفلت في أجساد ضحاياهم من العراقيين الأبرياء ؟
أي دين وأي مذهب يُحلّل دم الأخ والجار، دم الشاب والطفل والشيخ والمرأة، فقط لأنّ هؤلاء لا ينتمون لمذهب القاتل ؟
أي دين بل أي مذهب بل أي مرض نفسي بل أي وباء، انتشر بين هؤلاء القوم، فرأى منهم العالمُ بأجمعه صورةً، لم يكن ليتصوّر أنها باقية في دنيا البشر حتى يوم البشر هذا ؟

إنّ ما يحدث في العراق، من عنف همجي وبدائي، هو فوق التصوّر وفوق الاحتمال. كل يوم مذابح ومجازر، وكل يوم ضحايا مدنيون يتساقطون، حتى بلغَ عدد ما يموت من العراقيين بين 60 إلى 80 عراقي في المتوسط كل يوم.

فتحت أي غطاء وأية أيديولوجيا وأي دين وأي مذهب وأية أفكار يموت هؤلاء الضحايا، من هذا المذهب أو ذاك، فلا يتحرّك لأحد ضمير، ويصير خبر قتلهم وتجزيرهم عادياً هو الآخر، من كثرة ما يتكرّر كل يوم بل كل ساعة على مدار اليوم والليلة ؟

العراق في حالة جنون كامل. في حالة تدمير ذاتي ونهش ذاتي. بعض أبنائه السفلة يتآمرون عليه. وبعض العرب الوهابيين والتكفيريين يلغون في دمه. والحكومة المنتخبة عاجزة. والوضع هناك أشبه بعش الدبابير. ومع ذلك، مع ذلك ثمة موقف لا بد من اتخاذه حيال كل ما يجري هناك.

فمصيبة العراق الكبرى، تتلخص في تدخّل الدين، بغض النظر عن مذاهبه، في تفاصيل المشهد السياسي. الدين مختلِطاً بالسياسة. الدين المسيّس. وتلك مسألة لا بد من وضع حد لها، إن لم يكن اليوم فغداً. يجب وضع الدين ورجالاته ورموز مذاهبه، في أماكنهم الصحيحة فقط : أي في الجوامع والحسينيّات والمؤسسات الخيرية، بعيداً عن الحياة اليومية الأرضية للشعب العراقي. وبدل تدخل الدين، فلتكن quot; المواطنة quot; هي دين العراق الجديد، أسوة ببقية دول العالم المتحضّر. كيف ؟ تلك قصة طويلة نحيلها إلى النخبة من رجال ونساء العراق، ليتدبروها هم لا نحن. فالعراق قادر، رغم كل مآسيه، على اجتراح هذه الخطوة العملاقة، ولو تدريجياً، وبما يناسب ثقافات مواطنيه وتربيتهم. المهم أن نبدأ.

والمهم أيضاً، أن تضبط قوات حرس الحدود العراقية مداخل ومخارج البلد. فهذه الطامة الكبرى، طامة الانتحاريين، هي منتوج عربي لا عراقي. عربي بامتياز. وهابي بامتياز. قاعدي بامتياز. وما لم تُحرس الحدود جيداً، فسيظل المحيط العربي، يضخ للعراقيين، هذا المنتوج ذا الماركة القاعدية المسجلة. لذا كل تقصير في ضبط الحدود، سينعكس موتاً وخراباً على العراق والعراقيين.

لن ندخل في أضابير صراع السنة مع الشيعة. ولن نخوض هذا السجال الطائفي المعيب والمقيت ونحن في مطالع الألفية الثالثة. ولكننا سنقول كلمة واحدة فقط : وهي : إذا تُركَ الأمر لرجال ورموز الدين في كلا الطائفتيْن الكبريين، فلا تنتظروا خيراً. لا تنتظروه لا من حارث الضاري ولا من الحكيم ولا من أي رجل دين آخر. نحن مع تحييد رجال الدين، مع احترامنا لهم، ومع عدم تدخلهم في مجريات الحياة العراقية. سيقول قائل إنك لا تعرف مكونات وثقافة الشعب العراقي. ولا تعرف تعقيدات الشخصية العراقية. أقول ربما. إنما لا يمنع هذا، من استشراف حلول، سبقنا إليها كلُ العالم في الماضي البعيد والقريب. فجذر المشكلة في العراق، هو جذر سياسي متجلبب بجلباب الدين. فالحق أنّ المتصارعين هناك، لا يتصارعون على حصتهم من السماء، وإنما على حصصهم في السلطة والنفوذ والمال والامتيازات. وما الدين أو المذهب، سوى شماعة لا غير. وفي مثل هذه الحالة، لا مفر من تحييدهم كلهم. ومن العمل على ردع المُتجاوِز منهم. ليتفرغ العراق بعد ذلك، بكل قواه وطاقاته، إلى مواجهة التكفيريين العنصريين القادمين إليه من دول الجوار العربي والأجنبي. فهؤلاء هم الخطر الحقيقي على حاضر ومستقبل العراق. وهؤلاء هم أعداء العراق الحقيقيون وليس سواهم.
إنّ المشكلة تكمن في ضعف الدولة العراقية، وفي تراخي رجالاتها. وما لم تُقوَّ هذه الدولة، وما لم تقف معها دول الجوار، جميع دول الجوار، فإن سيل الدماء لن ينقطع.
لقد غرق الجميع في المستنقع العراقي. حتى وصل الموت إلى الموظفين والعمال والباحثين بعرق جبينهم عن لقمة عيش شريفة ونظيفة.
إنها المأساة. وكل مَن هو قادر على أن يخفف منها ولا يفعل، هو شريك فيها.
لسنا مع الطائفية ولا مع المذاهب. فهذه وتلك هي العدو الحقيقي لشعوب المنطقة. وهذه وتلك هي مقتلنا ومذبحنا.

أما العمال الستون الذين قضوا صباح الثلاثاء الماضي في ساحة الطيران ببغداد، فتحوّلوا إلى [ مجرد رقم ] في وسائل إعلامنا، فلهم الرحمة وعلى عائلاتهم الصبر والسلوان. فإنهم قد ماتوا على الأرجح بيد عربي من دول الجوار. عربي متخلّف متوحش، مكانه ليس تحت سماء العراق، بل تحت حبل المشنقة، لو كان في البلد قانون، وأناس قادرون على تنفيذ هذا القانون.