مهداة إلى الصديق إميل عبّود

يحلو لصديقي العائد إلى الأراضي العربيَّة بعد غيبة سنين أن يخبرني عن تطوُّر استخدام ابنه الفتى للغة العربيَّة. فقد بدأ بكلمة quot;شووووquot; يمدُّها باستغراب أو استهجان حسب المقتضى. تطوَّر فيما بعد إلى quot;ما بدِّيquot; وquot;ما بعرف.quot; القفزة النوعيَّة كانت، والقصَّة لصديقي، يوم دخل الولد البيت صارخًا بالإنجليزيَّة: quot;ماما، ماما، لقد وضعت أوَّل جملة مفيدة اليوم.quot; وحين سألته الوالدة، وهي تكاد تقفز من جلدها افتخارًا: quot;أسرع، أخبرني، ما هي.quot; قال: quot;ز... لأنَّا كبيرة كثير.quot; تاركًا إيَّاها تبحث عن فكِّها الأسفل لكي تعيده إلى مكانه. آخر ما تعلَّمه الفتى: quot;والله مش أنا.quot;

على ما يبدو، فإنَّ هذه العبارة هي الأكثر رواجًا بين التلامذة. فإن أوقع أحدهم كوبًا وكسره قال: quot;مش أنا.quot; وإن نظرت إليه والدته معاتبة أكَّد ببراءة الأطفال: quot;والله مش أنا.quot; وإذا دلق زميله كوبًا من الشاي على السجادة صرخ قائلاً: quot;مش أنا.quot; وإذا جاء ثالث بورقة العلامات، وكانت على غير ما يتمنَّى الأهل قال: quot; مش أنا.quot; وهكذا دواليك.
ذكَّرتني رواية صديقي بقصَّة حدثت معي منذ سنين. كنَّا نذهب أسبوعيًّا لزيارة أقارب لنا. وكان عندهم طفلة دون الخامسة سنًّا، والأطفال في ذلك العمر فضوليُّون يحبُّون الاستكشاف، والفضول يؤدِّي إلى حوادث كالخربشة على الحيطان بقلم الحبر، أو رمي الهرة من النافذة، أو الاختباء في الثلاَّجة، أو قص فستان الماما. المهم أنَّه كلَّما همَّت والدة الطفلة بتأديبها، كانت الجدَّة تعترض قائلة: quot;مش هيِّي، إنَّها لا تقوم بمثل هذا الأمر. تلك كانت طفلة أخرى.quot;

بالأمس تظاهر آلاف اللبنانيِّين، وقيل كان بينهم بعض السوريِّين والفلسطينيِّين، فأحرقوا وكسَّروا وأهانوا مقدَّسات دينيَّة تحت ذريعة حماية مقدَّسات دينيَّة أخرى. الصرخة الأولى، ممَّن أرسل هؤلاء وطلب عدم الخشية منهم كانت: quot;هؤلاء ليسوا لبنانيِّين، إنَّهم المندسُّون. إنَّهم سوريُّون وفلسطينيُّون.quot; وحين قالت كاميرات التلفزيون كلمتها، وأشارت إلى quot;اللبنانيِّينquot; من شتَّى المناطق، كان الجواب: quot;مش نحنا.quot; وحين نظر اللبنانيُّون معاتبين أكَّد الذين أرسلوا من كسَّر وأحرق، ودفع ثمن نقلهم وثمن سندويشات الغداء: quot;مش نحنا، والله مش نحنا.quot;

طبعًا quot;مش نحنا.quot; فنحن اللبنانيِّين لا نحرق ولا نكسِّر ولا نذبح على الهويَّة، ولا نخطف ولا نقصف المناطق المدنيَّة الآهلة. لا، إنَّهم quot;الغرباءquot; يفعلون ذلك بنا نحن اللبنانيِّين المساكين. ألم يقل لنا كبير صحافيّنا إنَّ تلك كانت quot;حرب الآخرين في لبنان.quot; نحن لم نخض حرب إلغاء، ولم نقم بالسبت الأسود ولا مجازر الجبل، ولا تل الزعتر وصبرا وشاتيلا. لا، نحن اللبنانيِّين حضاريُّون، مثقَّفون، مساكين. quot;مش نحنا، هودي ناس تانيين.quot; ليت بين quot;زعماءquot; اللبنانيِّين رجالاً يعترفون بخطأ، فيعتذرون للشعب عن الكثير من الجرائم التي ارتكبوها بحقِّه وباسمه.

قيل للبعض إنَّهم زعماء طائفة كبرى فصدّقوا. أرسلوا الباصات لنقل أبناء طائفتهم ليقوموا بواجب الاحتجاج أمام السفارات عنهم. واعتقدوا أنَّهم إذا جلسوا في مقهى ldquo;Petit Cafeacute;rdquo; ببزَّاتهم التي يفوق سعر الواحدة منها معاش بائس في سنة، نافخين دخان سيجار quot;كوهيباquot; في الفضاء، شعر بمثل شعورهم ابن عكَّار. بالمختصر، اعتقدوا أنَّهم إذا اغتنوا اغتنى فقراء الطائفة معهم، وشبعوا واكتسوا ودفئوا وعلَّموا أبناءهم وأخذوا زوجاتهم إلى quot;الداوناتاونquot;، مرَّتين في الأسبوع. المشكلة أنهم ظنُّوهم معهم، فإذا هم مع الزرقاوي. ظنُّوهم quot;لبنانيِّينquot; ففاجؤهم بكونهم quot;أفغان.quot;
غدًا إذا سألني رقيب: quot;كيف تكتب مقالاً كهذا؟quot; فإنَّ جوابي حاضر. quot;مش أنا! والله مش أنا!quot;
ملحق:
أتيحت الفرصة لصديقي الأديب أحمد عيد مراد للاطلاع على هذه المقالة قبل نشرها، فكانت منه هذه الأبيات اللطيفة هدية إلى quot;الرقيب.quot;

مَا كَانَ قَصْدِي يَا رَقِيِبِيَ quot;مِشْ أَنَاquot; فَأَنَـا لِعِلْمِكَ حِيْنَ أَكْتُبُ quot;مِشْ أَنَاquot;
إِنِّـي أُهَلْوِسُ حِيْنَ أَكْتُبَ نَاسِـيًا فَمَـعَ الحُكُومَةِ كُلُّنَـا طَبْعًا هُنَـا
فَـإِذَا نَسِـيْتُ وَخِلْتُ أَنِّـي حَالِمٌ فَأنَا بِنَوْمِي لَسْـتُ أَعْلَمُ مَـنْ أَنَا
وَالشَّـعْبُ أَيْضًـا نَائِـمُ لَكِنَّـهُ لا بُـدَّ يَصْحُو مِنْ مَنَامَاتِ الهَنَا
وَأَنَـا كَذَلِكَ quot;مِشْ أَنَاquot; لَكِنْ أَنَـا مُتَنِبِّئُ بِطُلُوعِ فَجْرٍ قَـدْ دَنَــا
لا تَنْسَ أَنَّكَ واحِـدٌ مِـنْ شَعْبِنَا فَاقْرَأ مَقَالِي جَيِّـدًا وَارْفِقْ بِنَـا