مراحل الندم في حياة الإنسان كثيرة ووفيرة، خاصة عندما يكتشف جوانب الدنيا وخباياها!
ولعل آخر مراحل الندم، التي داهمت القلب أن صاحب السطور لم يتعرف على رائد الصحافة والنشر في السعودية السيد هشام علي حافظ إلا قبل حزمة من الأيام.
بالتحديد في إجازة الحج الماضية، أو لنقل في إجازة رأس السنة الميلادية، حين دعاني الصديق والصحفي الواعد أحمد عدنان للسلام على هذا الرجل الكبير فكراً وطموحاً ورجولة.
أخبرني أبا الحكم أحمد عدنان بأن السيد هشام يعرفني، بل إنه - أي السيد هشام - مستعد للقاء!
كان اللقاء مع السيد- قمصّه الله ثوب العافية عاجلاً غير آجل- في بيروت، قبالة البحر، لم يكن اللقاء إلا هديلاً من الذكريات، يكسر حواجز الحيرة بين فراغات المشهد الصحفي، أو قل هي شروحات تفضح ما حشرته الأقواس، وإضاءات تسفر عن سيل الظلام الذي يحاول أن يسرق منا ما بقي من ذبول المصباح.
كانت لقاءاتنا يومية، أحمد وأنا، وما بيننا السيد، الذي تأتي ذكرياته بوصفها (سيدة الوضوح والصراحة) أيضاً.
عندما تحدق في عيون السيد تلمح طموحاً وعزة وشموخاً، بدأ منذ أن كان في الطفولة صبياً، طموح لم تخيفه السنون والظنون، إنه الطفل الذي يقول عن طفولته:
(بدايتي كانت عام 1939 في المدينة المنورة، عندما بلغت الثامنة من عمري، عملت في مكتب والدي وعمي، الذي كان عبارة عن دكان به مكتبان في واجهت الدكان.. وعلى الجدران إطارات بداخلها آيات قرانية كلها هدايا لوالدي وعمي بمناسبة صدور جريدة المدينة، في هذا الدكان كان لي ركن صغير عليه منضدة خشبية أسفلها رف، المنضدة كانت لصنع الشاي والرف للكتب المدرسية التي أحضرها معي للمذاكرة أو القراءة، وعملي هو تقديم الشاي والمرطبات لضيوف والدي وعمي، لقد كان مكتب والدي وعمي المركز الثقافي والإعلامي في المدينة المنورة، يزوره المفكرون والأدباء من مختلف الدول العربية، وأذكر أنني- والكلام للسيد هشام- قدمت الشاي والماء البارد لطه حسين وعباس محمود العقاد وحسن البنا ومحمد حسين هيكل باشا وشكري القوتلي والحبيب بورقيبة وغيرهم).
لقد كان السيد يتحدث لنا - أحمد وأنا- وكأنه يستمطر الذاكرة، ويستدعي السنين الماضية، تصورّ أنك بحضرة رجل هو (تاريخ في الصحافة، أو صحافة في تاريخ) رجل أسس مع أخيه محمد أكثر من 16 مطبوعة، نعم إنها مطبوعات من الوزن الثقيل، خذ مثلاً (الشرق الأوسط / الإقتصادية / مجلة المجلة / عرب نيوز/ الرياضية/ الرجل / سيدتي... إلخ
تصورّ أنك تجلس بحضرة السيد هشام حافظ، الذي غيّر خارطة النشر الصحفي، وأعطى لصحافة الخبر مفهوماً جديداً، ومنح وسائل الإعلام المطبوعة في العالم العربي بعض الأجنحة لتحلق في الجهات الأربع، حين جعل جريدة الشرق الأوسط تطبع في 17 عاصمة ومدينة في العالم في نفس يوم صدورها، وفي أربع قارات!
في جلستنا المتعددة والغنية، كان السيد هشام يحدثنا- أحمد وأنا- عن سيرة حياته الكثيفة التي من الحماقة حشرها في هكذا مقال.
يقول عن ملابسات تأسيس الشرق الأوسط: (حصلنا على ترخيص إصدار جريدة quot;عرب نيوزquot;. صدرت الجريدة كأول جريدة يومية تصدر في المملكة باللغة الإنجليزية، وتملكت الشركة وكالة quot;سنترال برس فوتوزquot; للصور في quot;فليت ستريتquot; شارع الصحافة اللندني وقتها، وهي أقدم وكالة صور صحفية في العالم، وبذلك أصبح لنا قاعدة في أشهر شارع للصحافة في العالم، الوكالة كانت على وشك الإفلاس فاشتريناها بمبلغ لا يتعدى الـ(50) ألف جنيه إسترليني.
وبدأنا من هنا إصدار جريدة quot;الشرق الأوسطquot; التي جاءتني فكرة إصدارها وأنا في إجازة صيفية في مدريد، وصدرت فعلاً بعد أقل من سنتين من بداية الفكرة، وكان نجاحها السريع حافزاً لنا لتحقيق طموحاتنا الصحفية التي لم يكن لها حدود)!
يا الله! ما أروع أن تجلس بحضرة رجل أمضى أكثر من ثلاثة أرباع القرن عاملاً بوصفه طفلاً يقدّم الشاي في مطبعة صغيرة، إلى أن يصل إلى تأسيس أكبر شركة للطباعة والنشر في العالم العربي.
كانت جلستنا البيروتية، ممتلئة بالمعلومات حافلة بالروايات، جسيمة التدفق، لأن السيد هاشم هو المتحدث!
أتذكر أن السيد في إحدى الجلسات، تفضل مشكوراً بإهدائي مخطوطة كتابه المقبل الحامل لعنوان: (دولة رسول الله، أول دولة إنسانية علمانية في التاريخ الإنساني).
اعتبرت أن هذا الإهداء حسن ظن من السيد لأحد محبيه، حملت المخطوطة، وشرعت أقرأ.. لتصبح هذه القراءة- فيما بعد- مائدة للنقاش.. ومجال للتناوش من مكان قريب!
لقد أذهلني هذا السيد- دثّره الله أردية العافية- بسعة صدره، ورحابة استقباله، حين اعترض على فكرة هنا أو اختلف مع مفهوم هناك.. لقد كان هذا التقبل بمثابة الضياء الذي زيّن لي سواد ظنوني، على كل حال الكتاب- إذا صدر- فإن ضجة تنتظره، لأن الآراء الواردة فيه أكبر من أن تستوعبها المعدة الإسلامية المعاصرة.
كان السيد في جلساتنا يتجلى، وما على الجالسين إلا نبش ذاكرته، أتذكر أنني سألت عن وجوه وأسماء غفيرة، وعندما وصلنا إلى الأستاذ والكاتب الكبير مصطفى أمين- الذي يحبه السيد كثيراً- تحفزّ السيد للإجابة، وأظهر وجهه عبر ممرات الألم والعذاب، وقال: إن هذا الكاتب- يا أحمد- أعني مصطفى أمين من أقرب الناس إلى فكري، وعلاقتي الشخصية به جعلتني أطلع على معاناته عن قرب.. حينها سألته قائلاً: (ولكن هناك من يقول بأن الكاتب مصطفى أمين كان يتشكي من سنوات التعذيب والسجن رغم أنه لم ينل ما ناله غيره من الكتاب تعذيباً وترويعاً!)
حينها تعجب السيد هشام، واستدعى ذاكرته للرد عليّ قائلاً: (لقد قلت للأستاذ مصطفى هذا الاتهام في مكتبه في القاهرة فما كان من الكاتب الكبير مصطفى إلا أن أغلق باب مكتبه بالمفتاح، ثم خلع بعض ملابسه، وأراني آثار التعذيب في ظهره وفي بعض أعضائه التناسلية، ثم قال الأستاذ مصطفى: لقد تعمدت أن أريك ذلك- يا سيد هشام- لتكون شاهداً على التعذيب والترويع الذي تعرضت له)!!!
لقد كان السيد هشام يروي هذه القصة وعلامات اليأس والحسرة والإحباط تملأ محياه.. عندها أسدل ستار اللقاء على أمل أن نلتقي غداً!
جاء الغد، وحضرنا في حضرة السيد، فكان الحديث يشرّق ويغرّب، مثل سفينة دائرة في بحار الكون لا حدود ولا سواحل تحد من إبحارها، كان السيد يروي، ويوضح، ونحن- أحمد وأنا- نقول: هل من مزيد!
عندما قرأت سيرة السيد الذاتية قفزت إلى ذهني نظرية قديمة تقول: (إن الوظيفة تخلق العضو) وتُوضح هذه النظرية بما يلي: إن الزرافة طويلة، لأنها تدربت على معانقة الأشجار العالية، كما أن الهندي الذي يمشي على الجمر في الهند وصل إلى هذه القدرة على التحمل، لأنه تدرب على هذا المنوال، كما أن الأمر نفسه ينطبق على الأسماك فهي لا تحتاج العيون، لأنها تدربت على الاستبصار بحواس أخرى.
السيد من الذين تنطبق عليهم هذه النظرية، فهو تدرب على الحبر والورق والصحافة منذ سن الطفولة، الأمر الذي جعله يتربع الآن على الكثير من شركات النشر والطباعة والإعلان، بل والتأليف أيضاً...
ومما يدهش في السيد أنه متصالح مع ذاته، أشد ما يكون التصالح، فهو بوصفه ابن المدينة المنيرة- على ساكن ثراها الصلاة والسلام- كتب كتابه (أحبك يا رسول الله) ثو أعقبه بـ(أنا وأنت آدم وحواء) ثم كتاب (عبر من السيرة النبوية).
بعد ذلك قاده التصالح مع ذاته إلى سلوك وأتجاه فكري مختلف عن المسلك السابق في الوسائل والطرق وإن كان يتفق معه في الهدف والمضامين، لقد بدأ هذا التوجه بكتابه: (لا... لا... لست معكم، أنا.. أنا ضدكم) عام 2002م.
وما يدهش في السيد أنه يميل إلى العمل الجماعي، لذا فقد أقدم على تأليف كتاب بعنوان: (كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الإستبداد)، وكتاب: (أيها المحلفون.. الله لا الملك)، وقد أقدم على تأليف هذين الكتابين بالإشتراك مع المفكرين جودة سعيد وخالص جلبي.
يا قوم إنه السيد هشام، الذي أتمنى أن يمد الله في عمره ليكتب تجربته الممتدة لأكثر من خمسين سنة في مجال النشر والصحافة، إنها قصة ولادة إمبراطورية إعلامية هي الآن مالئة الناس، وشاغلة الدنيا.
نعم لقد انقضت اللقاءات، وهذا المقال، ومازال في الذاكرة أرتال من الأصداء والأضواء التي أشعلها السيد، ومازالت تتحرك في الرأس، كأنها رؤوس المكافحين.
انقضت اللقاءات، ولم ينقضِ الشوق واللهفة لسماع المزيد من تاريخ الصحافة العربية والمحلية... حقاً لقد كان وقتنا مع السيد هو سيد الوقت!


[email protected]