ممارسة القوة تعتمد موافقة المحكومين وفي اللحظة التي يرفضون الطاعة يسقط الطاغوت ولاحاجة لقتله
هذه الأيام الكل مشغول بالشتم والشتم المضاد في العالم، كما حدث في معارك دون كيشوت الكارتونية، فينفس الأوربيون عن أحقاد صليبية قديمة، ويجيب عليها مماليك البرجية والبحرية بأشد، والكل يلغ من إناء واحد من الثقافة: ثقافة الكراهية والعدوان والأثم...
ولكن السماء مشغولة بنبأ أهم هو رحلة الآفاق الجديدة لاكتشاف آخر كوكب في المجموعة الشمسية بلوتو، على بعد خمس مليارات كمـ غارق في سبات شتوي بدرجة حرارة 230 تحت الصفر، قد تجمدت على ظهره قصة بناء الكون في صقيع لايفارقه.
إن قصص الكراهية في العالم تجعلني أحيي قيم النضال السلمي من جديد، وهذا يذكرني بقصة غاندي مع النظام العنصري؛ فقد كانت الليلة التي ألقي فيها غاندي من القطار في جنوب أفريقيا حاسمة، فقد تجرأ وهو (الملون) على ركب قطار الدرجة الأولى المخصصة للبيض.
يذكر غاندي ذلك في كتابه (تجاربي مع الحقيقة) ويقول إنه تكور على نفسه في المحطة تلك الليلة يتأمل الظلم الانساني وهو مطوق بالوحدة والغربة والظلام والبرد.
وفي هذه اللحظة من الانهيار والحصار النفسي التمع في سماء فكره بريق لحظة العبقرية وتغير الرجل وغيَّر العالم.
إن المواقف الصعبة هي التي تشكلنا خلقا من بعد خلق. وهناك من آتاه الله الحكم صبيا، وهناك من يبلغ السبعين وهو بعد مراهق؛ فالعمر ليس بوحدات الزمن؛ بل بامتلاء الخبرة بلحظات المواجهة الساخنة التي تنقش على الأعصاب ذاكرة لاتمحى.
ولقد خلقنا الانسان في كبد.
وليس غريبا أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة على شكل كتاب نظري (جملة واحدة) كما طلب القرشيون بل كان ينقش قوانينه على ألواح القلب.
كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.
طوَّر (غاندي) أسلوب فعال في مقاومة الطغيان وقام بتجاربه الأولى في جنوب أفريقيا، كما يفعل أطباء المخابر قبل نقلها الى القارة الهندية، فدرب الجماهير على (العصيان المدني)، من أجل كسر القانون الظالم، بعدم الطاعة له .
إنها وصفة رخيصة. قليلة التكاليف. مباركة النتائج. يمكن لكل شرائح الأمة ان تشارك فيها، وتشكل آلية ناجحة للمقاومة ضد أي لون من الطغيان، خارجياً كان أم داخلياً، لإن الحرية لاتتجزأ.
وأهم مافيها ولادة جديدة للأمة محررة من مركب (الاستضعاف ـ الاستكبار). فلايستبدل طاغوت بطاغوت.
والذي حصل في العالم العربي عندما نال خرافة (الاستقلال) أنه تعرض في كثير من أجزاءه الى طغيان فاق أيام الاستعمار، مما يحكي عمق الأزمة الداخلية، والقصور السياسي و(القابلية للاستعمار)، التي مهدت لمجيء الاستعمار، فاستبدل الاستعمار الخارجي بالاستبداد الداخلي، وهو أدهى وأمر، لأنه لم يتخلص بعد من مرض (القابلية للاستعمار) فهذا هو جوهر الاستعصاء السياسي في العالم العربي .
والصحافة اليوم تعني باخبار زيارات الحاكم أكثر من بؤس الفقراء.
والتعددية الحزبية لاتزيد عن ديكور سياسي. واختفت المظاهرات العفوية الجماهيرية. وتراجعت حرية الفكر عما كانت عليه في الخمسينات. ويزندق أناس لكتب خطتها أيديهم قبل عشرين سنة؟!
لقد أدرك (أتيين دي لابواسيه) منذ عام 1562 م عندما كتب (العبودية المختارة)، أن مشكلة الطغيان هي أننا نحن الذين نكوِّنه، ونعطيه شرعيته، وفي اللحظة التي نكف عن طاعته يسقط بقدمين من صلصال كالفخار، ولاحاجة لقتله.
وهي التي اشار إليها (جين شارب) في كتابه (سياسات اللاعنف NONVIOLENT ACTION) عندما وضع يده على (جوهر اللاعنف) فقال: إنه (الإيمان بأن ممارسة القوة تعتمد على موافقة وقبول المحكومين، ومن ثم فبمقدور هؤلاء المحكومين السيطرة على قوة خصومهم بل وتدميرها إذا هم سحبوا موافقتهم هذه).
يذكر (خالد القشطيني) في كتابه (نحو اللاعنف) عن الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) أنه رفض الاشتراك في الحرب العالمية الأولى بقوله:(إذا استعمل شعب بأسره المقاومة السلبية، بإصرار وإرادة عازمة، وبنفس القدر من الشجاعة والانضباط، اللذين يظهرهما الآن في الحرب، فبإمكانها أن تحقق حماية أكبر وأتم، لكل ماهو جيد في الحياة العامة، مما تستطيع أن تحققه القوات البرية والبحرية، وبدون أي من تلك المجازر والخسائر ومشاهد القسوة التي ترتبط بالحرب الحديثة).
إن القرآن ولد هذا المعنى بتكتيك ثلاثي:
(أولا) المسؤولية في الآخرة فردية. ولن يكون هناك شفاعة أورشوة ولو كان ملء الأرض ذهبا، والتابع والمتبوع في خط الطغيان يلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار.
وهي مشكلة ناقشها القرآن في ثماني مواضع تحت عنوان المستكبرين والمستضعفين.
(ثانياً) بأنه لا أحد له سيطرة على الانسان بمن فيهم الشيطان: (إنه ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين) أي أن (الاستعداد) للظلم هو الذي يهيء لكل أنواع الظلم اللاحقة.
و(ثالثاً) إن تدمير الباطل لايتم بقتله؛ بل بعدم طاعته أوالتعاون معه، وكل مايحتاجه الموضوع جماهير تثق بقيادة كارزمائية صادقة، وتدريب جيد على ممارسة اللاعنف، ورؤية واضحة للأهداف، وتكتيكات ناجحة، كما فعل (غاندي) من التخلص من الملابس البريطانية، باختراع فكرة (المغزل) أو (مسيرة الملح) لكسر احتكار بريطانيا له. كل ذلك في جو أخلاقي تتحلى فيه النفس بالصبر على الأذى.
هكذا كان زاد الأنبياء...
(ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين).
ولقد كان ذلك في متناول الخميني في حربه ضد العراق، فكان بإمكانه أن يأمر مليون انسان من كل الأعمار، ومن الجنسين، مع حضور صحفي العالم، وبنفس أسلوب (الاضرابات والمظاهرات) بالمقاومة اللاعنفية التي أسقط فيها الشاه أن ينجح في التحدي الجديد، ولم يكن صدام بأقوى من الشاه.
ولكن التورط في الحرب أضاع كل شيء، في ثماني سنوات عجاف، ووضع الغرب أقدامه في ماء باردة، وانتعش تجار السلاح ومنتجوه. ودخل الخميني الحقل الذي يفقد فيه السيطرة على الأقدار، حيث الأسلحة المتطورة، وحيث تحيد قوة الجماهير؛ فاستبدل الإرادة الإنسانية بالحديد، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. واضطر في النهاية أن يستسلم لإرادة الغرب، فيتجرع كأس الصلح كمن يتجرع سم الشوكران السقراطي.
أرسل لي شاب يعبر عن صعوبة استيعابه لفكرة اللاعنف أو الكفاح السلمي ضد الاحتلال الاسرائيلي. لقد كانت الفكرة نصف مستساغة في مقاومة استبداد الأنظمة العربية، أما الصراع ضد الصهيونية فلاينفع معها الا مقارعتها بالسلاح؟
قال الشاب إن (فرق الكمون في القفز بين فكرة (العنف) وأخرى (كاللاعنف) كبيرً مما يولد تيارا شديداً يصعق المتخطي). هذه الإشكالية تجعل البحث مليئاً بالأفخاخ، وأنا اعترف أن البحث لم يكن سهلاً حتى تبللور عندي، ووصل الى حالة التألق، ولذا كان من المناسب أن نفك هذه الاختلاطات، بشرح ذو مفاصل، يعتمد أدوات بحث معرفية، تستفيد من حزمة من العلوم المعاصرة، مثل علوم النفس والاجتماع والتاريخ والتكنولوجيا والانثروبولوجيا.
ولكن هل العنف بيولوجيا أم ثقافة؟
إذا وظفنا علم النفس والفيزيولوجيا (علم الغريزة) لفهم ظاهرة العنف الانساني فهي كما قال (بيير فيو) في كتاب (المجتمع والعنف): (العنف ليس حادثاً عابراً مؤسفاً من حوادث السلوك الإنساني، بل يندرج في وضع مألوف من التوترات والمجابهات. فالعلاقات الانسانية تقوم على أرضية من الصراع والتناقضات وعلائق القوى. والعنف يكمن فيها كتهديد دائم، وهو ينفجر أحياناً كالبركان تحت ضغط نار داخلية لايخمد لهيبها على الإطلاق).
وفي الواقع فالانسان كائن محير تتعايش فيه أنبل التطلعات وغريزة الموت والتدمير. وهو ماأشار إليه (فرويد) في كتابه (أفكار لأزمنة الحروب) عندما كان يراسل آينشتاين بقوله: أن الانسان تتنازعه غريزتان الحياة (الليبديو LIBIDO) والموت (التانتوسTANTOS).
وحسب الفيلسوف الفرنسي (باسكال) الذي وضع فكرة (النهايتين) أنه ذلك quot;التناقض المحير في اجتماع التوحش والنبل في الانسان وأنه مكان القداسة و بالوعة الضلال ومكان الإجرامquot;
وقف باسكال في النهاية ليقول من يحل لنا هذا اللغز؟.
هناك شيء لاعقلاني داخل الانسان ينفجر معبراً عن نفسه بالعنف.
ويمثل العنف أحد ثوابت الفعل والتاريخ الانساني.
وعندما درس (غاستون بوتول) في معهده الذي أنشأه لدراسة (ظاهرة الحرب) التي تفتك أكثر من كل الأمراض مجتمعة ذهل أمام الاحصائية التي تقول أنه خلال 3500 سنة من التاريخ الانساني كانت كل 13 سنة من الحروب تقابل سنة واحدة من السلام.
أما (الماركسية) فرأت تجلي العنف أنه شيء طبيعي بسبب (الصراع الطبقي) ودعت الى العنف (الثوري)، فكما رأى ريكاردو في قانون (الأجور الحديدي)، وعبر عنه (آدم سميث) في كتابه (ثروة الأمم)، أن تحديد الأجور والعمال هي سلعة تخضع للعرض والطلب في سوق لاترحم، فقد وصل (مالتوس) في مقالته حول تكاثر السكان (الهندسي) الذي لايوازيه تكاثر الغذاء (الحسابي)، أن الحرب والمجاعات في النهاية هي تحصيل حاصل، ولذا فالعنف عنصر أساسي في الاقتصاد الانساني.
أما (دارون) فرأى أن صراع البقاء يقوم على العنف، والطبيعة تظهر لنا أن القوي يأكل الضعيف.
ومن هنا أشار (علي الوردي) في كتابه عن (الطبيعة البشرية) أن العقل الإنساني لايبحث عن الحق والعدل كما يزعم؛ بل هو آلة لصراع البقاء، مثل الأنياب للسبع، والقرون للثور، والناب للأفعى.
ولكن متى يحدث العنف في الوسط الانساني؟
يبدو أن أكثر الأوضاع التي تفجر الثورات عندما يمس الانسان في ثلاث: (وجوده) و(سلامته) و(كرامته)، أي ممارسة حقوقه الأساسية ذات الطبيعة المدنية أو الاجتماعية أو الفلسفية.
وهناك قانون هام، أن من يشعل الثورات ليس اكثر الطبقات الاجتماعية حرماناً، ومن يخلع عنه نير الاستعمار ليس أكثر الشعوب تخلفاً، وإذا هبط الانسان الى مادون عتبة دنيا من الطاقات الجسدية والتطور الثقافي يستسلم لما يحل به من تدهور، هذا إذا تسنى له أن يعي هذا التدهور، أو أن يلاحظ ما ينزل به من أشكال البتر، وهذا يكشف تحكم الديكتاتورية بالشعوب الى أجل غير مسمى.
ولو حاولنا أن نضع تحديدا واضحاً للعنف واللاعنف فيمكن أن نقول أن نقول أن العنف هو الاستخدام المكثف غير المشروع للقوة، وهو طيف من الاحتمالات تبدأ بالكراهية وتمر باللفظة السامة وتنتهي بالعمل الفيزيائي من الضرب باليد وانتهاء بالصاروخ النووي.
أي أن العنف يبدأ من (المشاعر السلبية) ليظهر على تعبيرات الوجه، من النظرات الحاقدة، ثم يطفو على اللسان باللفظ السيء، من سخرية واستخفاف ولمز وشتم، ثم يتطور الى العنف الفيزيائي، فيستخدم أطراف الصراع أيديهم بالضرب، أو يمدون أيديهم الى السلاح، بدءً من الحجر، وانتهاء بالسلاح النووي.
وحسب عالم النفس التحليلي (سكينر) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الانساني) فالـ (الحروب تبدأ عادة في عقول الناس، وأن هناك شيئا انتحاريا في الانسان ربما غريزة الموت يؤدي الى الحروب).
وبالمقابل فإن اللاعنف يختصر بجملة قصيرة هو ان نحقق مانصبو إليه بدون إيذاء الآخرين على أية صورة.
وهذا يعني أن عالم اللاعنف هو فضاء معرفي كامل، وليس تكتيكاً استسلامياً رخيصاً وبلاهة سياسية.
العنف يتظاهر بأربع سمات: التدمير.. والتوقف عن الحوار.. واعتماد العضلات.. وإسكات العقل... وأخيراً انتصار الغريزة على الضمير...
وله ثلاث نتائج مأساوية:
(معنوية) بالخوف واليأس والبؤس.
و(مادية) بالأذى والتحطيم والإفساد في الأرض، كما راهنت الملائكة على آدم فاعتبرته أنه مفسد في الأرض يسفك الدماء: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟).
وأخيرا (بنيوية) بالنظم السياسية القاهرة والحرمان الاقتصادي.
ولكن جواب الله أن هذا الكائن أمامه رحلة تطورية اجتماعية بيولوجية..
وستة آلاف سنة من الحضارة ليست بشيء أمام رحلة الانسان على الأرض منذ خمسة ملايين من السنين.....
كان الانسان قبل عشرة آلاف سنة يفترس الوحوش، والوحوش تفترسه، ولكن ماذا ينتظره بعد عشرة آلاف سنة؟ قال الله إني أعلم مالاتعلمون.
التعليقات