الدخان وظاهرة التدخين، من مُحدثات العصر ـ وشرُّ الأمور مُحدثاتها ـ دخلت في السِّياق الثقافي والاجتماعي والحضاري، وأصبحت تملأ الدنيا وتشغل الناس، وبعيداً عن كل الأقوال أعتبر المُدخن ناقص التفكير والإدراك والإرادة، قد يكون هذا تطرف، لكنه رأي أتحمل وزره وتبعاته، وما علاقة التدخين بالمثقف وإبداعه، إلا نكتة أدبية قالها أديبهم د. طه حسين ذات جلسة (مُستغرباً من المثقف الذي لا يُدخِّن)، فأضحت مثلاً يُحتذى، وقد نقلت لفضيلة العلامة د. يوسف القرضاوي، في حوار لي معه ـ نُشر في مجلة المجلة قبل أكثر من عام ـ ما قاله طه حسين عن التدخين، فسخر من ذلك، قائلاً أن هذا يدل على أن طه حسين وطائفته المُثقفين في غفلة، وأن الأمة ابتُليت بهم، مُنكراً علاقة التدخين بالإبداع، مُشدّداً على تحريمه، رافضاً اختلاف العلماء القديم على ذلك، بعد أن أكدت الأجهزة الطبية الحديثة ضرره البالغ!
والتحذير من التدخين أصبح شغل القوم الشاغل، ولهم كل الحق في ذلك، ويُشير كاتبنا المُثمر عبد الله المحيميد في كتابه (تقشير) إلى أن (التحذير من الغذاء المغلّف، سابق التجهيز، لا يُقارن بالتحذير من التدخين، حتى أن المدخنين ـ وبسبب هذا الشحن الإعلامي المجنون ـ يُعاملون بطريقة عنصرية، لا يُحسها إلا المدخن، ونشير هنا إلى أن أكثر بلدان العالم التي تقود الحرب على التدخين والمُدخِّنين هي أمريكا)! يُهمنا هنا تأكيد كاتبنا المحيميد على أن (التدخين عند الشباب، بمثابة إعلان للتمرد والاختلاف عن الأجيال السابقة، وسلوك قطعي مع الماضي، وإعلاناً لذكوريتهم الناقصة، أو تقليد لـquot;ديفيد ماكلينquot; رجل المالبورو، وهو يُشعل سجارته من جمرة، أو هو ممتطٍ حصانٌ أسود، يثير الخيال)! من هنا يمكن أن نقرأ ظاهرة التدخين ـ عند الشباب في المملكة خصوصاً ـ كمسألة داخلية، وشعور بالنقص، وكل مُدخن من هؤلاء الزعران (الحبرتية)، يحاول أن يقول (هاأنا ذا)! مُردداً قول أجداه: (ليس الفتى من يقول كان أبي)!
وقد جاء في صحيفة الوطن خبراً يفيد أن نصيب المملكة من ضحايا التدخين كبير، بالنظر إلى ما تؤكده مصادر طبية واقتصادية من أنها (تُعدُّ رابع دولة مستوردة للسجائر على مُستوى العالم، إذ يصل حجم السوق إلى 15 مليار سيجارة سنوياً، فيما يُقدَّر عدد المدخنين في المملكة من الذكور والإناث بنحو 6 ملايين، يُنفقون يومياً 3.5 مليون ريال على شراء التبغ)! صحيفة الوطن 2/5/1423هـ
وتؤكد الإحصاءات أنّ غالبية المُدخنين في المملكة من الشباب، فهل يمكن القول أن الرجولة ناقصة لدى الشباب هنا، ليأتي التّدخين كتوصيلة هوائية للوصول إلى مضارب الرجولة، بعد أن أنهك شريان الرئة، وجلب أمراض القلب والجلطة الدماغية!
إن عادة التدخين سلوك شاذ، حتى وإن دخّن كل الخلق، فجرائم المُدخنين لن تُصبح محترمة بقوة الاستمرار، وبسطوة الانتشار، لأنها تعكس أنانية بشرية حقيرة، حين يكون ضرر التدخين على الشخص المُجالس للمدخِّن أضعاف ما يكون على المُدخن! حتى كلمة (ممنوع التدخين) التي تُقرأ في كل حدب وصوب، كتبها الناصحون على عجلة من أمرهم، لأن شيخنا ابن مالك يقول في ألفيته:
وَلاَ يَجُوزُ الابْتِدَا بِالنَّكِرَهْ * مَا لَمْ تُفِدْ كَعِنْدَ زَيْدٍ نَمِرَهْ!
لذا يجب أن نُطيع ابن مالك، ونكتب على لوحتنا الإرشادية (التدخين ممنوع)، حتى لا نضر صحتنا وألسنتنا (طبعاً هذا الكلام مزح)! وإن كانت عبارة (ممنوع التدخين) ترجمة حرفية لكمة (no smoking) يا للأسف، حتى في النصح والإرشاد لا نخلو من الترجمة والاستعانة بكلام الآخرين!
- آخر تحديث :
التعليقات