quot;القتلة الاقتصاديُّون هم محترفون يقبضون أعلى الأجور ليخدعوا الدول في شتَّى أقطار العالم ويسرقوا مليارات الدولارات منها. إنَّهم يحوِّلون المال من quot;البنك الدوليquot; و quot;الوكالة الأمريكيَّة للتنمية الدوليَّةquot; (USAID) وغيرها من منظَّمات quot;الدعمquot; الدوليَّة إلى خزائن شركات عملاقة، وجيوب عدد قليل من العائلات المثرية التي تتحكَّم بمعظم موارد هذه الكرة الأرضيَّة. أمَّا الوسائل التي يتَّبعونها فتتضمَّن التقارير المالية المزوَّرة، والتلاعب بالانتخابات، والرشوة والابتزاز والجنس والاغتيال. إنَّهم يلعبون لعبة عمرها من عمر الإمبراطوريَّات، ولكنَّها تأخذ اليوم أبعادًا جديدة ومرعبة في عصر العولمة هذا. أنا أعرف، لقد كنت واحدًا من القتلة الاقتصاديِّين.quot; من مقدِّمة كتاب quot;اعترافات قاتل اقتصاديquot;، تأليف جون بركنز، كانون ثانٍ (يناير) 2006، منشورات Penguin.

يهدي المؤلِّف - وهو عميل متقاعد في جهاز اقتصادي تابع لوكالة الأمن القومي الأمريكيَّة - كتابه إلى روحيِّ رئيسين سابقين لدولتين من دول أمريكا اللاتينيَّة هما quot;خايمي رولدوسquot; الرئيس الأسبق للإكوادور، وquot;عمر تورِّيخوسquot; الرئيس الأسبق لباناما، وكلاهما قُتل في حادث طائرة مُفتعل على حدِّ وصف الكاتب، وذلك quot;لأنَّهما وقفا في وجه أخويَّة الشركات والمصارف والحكومات التي تهدف إلى إقامة إمبراطوريَّة عالميَّة. ويُضيف المؤلف: quot;لقد فشلنا نحن القتلة الاقتصاديُّون في إقناع كلٍّ من رولدوس وتورّيخوس، فكان لا بد من إرسال قتلة من نوع آخر: قتلة وكالة الاستخبارات المركزيَّة، الذين كانوا دائمًا وراءنا جاهزين للتدخُّل.quot;

اعترافات مثيرة لا نستطيع إلاَّ إسقاطها على مجريات الإحداث في بلادنا. لقد كتبنا منذ سنوات عن مأساة دول العالم الثالث التي تقع في فخِّ الحروب، فترهن موارد بلادها لتشتري أسلحة تتحارب بها، ثمَّ تطيل أمد الرهن في قروض من الدول التي سلَّحتها لكي تعيد إعمار ما تهدَّم. وكان الحديث يومها عن حرب العراق ndash; إيران.
ما هي مهمَّة quot;القتلة الاقتصاديِّينquot; الأساس؟ إنَّها مهمَّة بسيطة وقديمة جدًّاquot;، تُختصر بفلسفة quot;المرابيquot;، ولكن على صعيد مجتمعي وليس فردي بحت: إغراق الدول بديون لا تستطيع وفاءها، فتسلِّم مقدَّرات بلادها الاقتصاديَّة والسياسيَّة إلى يد الجهة المموِّلة التي تقيم نظامًا quot;ديمقراطيًّاquot; يشرِّع لعمليَّة السطو والابتزاز ولأيَّة متطلَّبات سياسيَّة للجهة المديِّنة أو حلفائها، فإن تردّد قُتل، وإن قامت نقمة الشعب عليه، استُبدل.

منذ انتهاء الحرب اللبنانيَّة أُغرق لبنان في دين مقداره أربعون مليار دولار، وهو إلى تزايد بسبب الفوائد. لبنان ليس بقادر على إيفاء هذا الدين. اللبنانيُّون يعرفون هذا وكذلك الجهة المديِّنة. في الواقع أنَّ الجهة المديِّنة لا تريد وفاء هذا الدين، تمامًا كما لا يريد المرابي من ضحيته وفاء الدين. بل هي تفضِّل أن تتركه يجر بذيله في البلد إلى ما لا نهاية. صحيح أنَّ قسمًا من هذا المال قد ذهب لإعادة إعمار وسط بيروت وبعض المناطق القليلة. ولكن الصحيح الآخر أنَّ قسمًا كبيرًا آخر قد ذهب إلى quot;عائلاتquot; مثرية أو زادت ثراء، وهي نفسها العائلات الممسكة بقسم من القرار السياسي في لبنان، وتحاول اليوم الإمساك ببقيَّته عبر تنحية الرئيس لحود.

خطوة إلى الوراء. يوم اغتيل النائب المرحوم جبران تويني كتبنا بتاريخ 12 كانون أوَّل (ديسمبر) ما يلي:
quot;سوف يقول البعض إنَّ اغتيال النائب تويني هو انتقام لمواقف ماضية، أمَّا نحن فنرى فيه تأسيسًا لأحداث آتية... أوَّل هذه الأحداث الآتية في رأينا، هو محاولة إزاحة رئيس الجمهوريَّة اللبنانيَّة تحت ضغط شعبي مدعوم من قوى دوليَّة، - بغضِّ النظر عن النتائج - أسوة بما حدث بعيد اغتيال الرئيس المرحوم رفيق الحريري من ضغط شعبي مدعوم بقوى دوليَّة نتج عنه إخراج الجيش السوري من لبنان وما تبعه من تداعيات.quot;
لقد نلنا نصيبنا من التهجُّم والشتائم، بل والتهديد يوم كتبنا هذا الكلام. ولكن تسارع الأحداث في هذا الاتِّجاه يعطي مصداقيَّة لرأينا فيما كتبنا. كلُّ ما أحاط باغتيال المرحوم تويني بدءًا من احتياطه الشديد في وصوله إلى لبنان بحيث كان معروفًا من قلَّة قليلة، إلى عدم اهتمام الحكومة، وهي حليفته، بحمايته كما يجب، إلى التعثر الذي يرافق التحقيق في جريمة الاغتيال، كله يشير، إلى ضرورة عدم الاكتفاء بالبحث عن حقيقة مَن اغتاله عند quot;العدو السوريquot; فقط. نحن ندرك أنَّ هذا الكلام سوف يجلب علينا من الشتائم أطنانًا، ولكن هذا لا يثنينا عن التساؤل.

سؤال آخر قد يفتح سيل الشتائم، ولكن الكتاب الجديد الذي نعرضه في هذا المقال يستفزنا إلى طرحه. يقول الكاتب: quot;حين تدخل في دائرة القتلة الاقتصاديِّين لا يمكنك الخروج.quot; ويشير إلىquot;الضغوط الهائلة التي تلقَّاها، رشوة وتهديدًا، لكي ينثني عن نشر الكتاب، ولكنَّه أصرَّ بعد أن تعهَّدت له ابنته بنشره في حال تعرَّض لمكروه.
نمهد للسؤال بما يلي: لقد كان الرئيس المغدور رفيق الحريري هو المحرِّك الكبير في إعادة إعمار لبنان. وقد كان برنامجه الإعماري موضوع خلاف عميق في لبنان بين مَن كان يرى فيه مدخلاً إلى تحريك الاقتصاد وتشغيل اليد العاملة، ومَن كان يخشى من إغراق البلد في دين عام يثقل كاهل اللبنانيِّين إلى آجال بعيدة. في نهاية المطاف انتصر رأي الرئيس الحريري، وأعيد إعمار بيروت وبعض المناطق بكلفة باهظة جدًّا، أغرقت لبنان فعلاً في دين يعجز عن وفائه ماليًا، ولكن يُتوقع منه سداده سياسيًا، وهذا كلُّه ينسجم مع أسلوب quot;القتلة الاقتصاديِّينquot; في العمل.

من جهة ثانية رافقت عمليَّة الإعمار موجة هدر عظيمة استفاد منها قلَّة من quot;عائلاتquot; لبنان، وبعض المسؤولين السوريِّين الذين كانوا متسلِّمين ملَّف لبنان في تلك المرحلة، ممَّا دفع بإحدى حكومات الرئيس الحص إلى تحريك أكثر من دعوى قضائيَّة بحقِّ مَن اعتبرتهم مسؤولين عن الهدر، ومنهم مَن هم اليوم في أعلى مراكز الحكومة. موضوع الهدر هذا يَعِدُ العماد ميشال عون بملاحقته إلى النهاية، في حال وصل إلى رئاسة الجمهوريَّة.

السؤال بعد هذا التمهيد الطويل هو التالي: إذا وافقنا أنَّ الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة ضغطت على الرئيس الحريري وكتلته لكي يصوِّت إلى جانب التمديد للرئيس لحوُّد، ألا يجب الإقرار أيضًا بوجود ضغط معاكس من الجهات ماسكة الدَّين اللبناني، والعاملة من ضمن إستراتيجية سياسية أميركية ndash; إسرائيلية، لرفض ذلك التمديد؟ وإذا كان هذا صحيحًا، أليس من المنطقي أن يكون quot;القتلة الآخرونquot; الذين تكلَّم عنهم quot;بركنزquot; قد تحرَّكوا لأنَّ quot;القتلة الاقتصاديِّينquot; فشلوا في إقناعه بالتصدي لسورية؟ في رأينا، هذا المنطق يفرض نفسه، ليس فقط بسبب كلِّ النتائج التي حصدها quot;القتلةquot; لتاريخه، بل ليكون قتل الحريري عبرة لمن تسوِّل له نفسه عدم quot;الانصياعquot; لمالك الدَّين.
نحن لا نعرف مَن قام بسلسة الاغتيال في لبنان، فلا نبرئ ولا ندين أحدًا قبل صدور تقرير مقنع. ولكنَّنا نرى ضرورة إضافة كتاب quot;بركنزquot; إلى ملفِّ التحقيق.