هل من منطق لبناني يضع البلد ومصلحته فوق كلّ أعتبار؟ في حال كان هناك مثل هذا المنطق، يمكن أن يكون للحوار بين اللبنانيين معنى ما، بدل ان يكون الحوارمجرد وسيلة للهرب من الواقع المتمثل في سؤال في غاية الوضوح والبساطة هوالآتي: أي لبنان نريد؟ لبنان المنفتح على العالم القادر على أن يبني نفسه مستعيداً دوره في المنطقة، لبنان القادر على توفير فرص عمل لجميع أبنائه ... أم لبنان quot;الساحةquot; التي تستخدم لتصفية الحسابات بين الأطراف الأقليمية أو بين بعض الأطراف الأقليمية من جهة والعالم ممثلاً بالولايات المتحدة والأتحاد الأوروبي وبقواه الأخرى من جهة اخرى؟

لدى لبنان مصلحة حيوية في الأستمرار في مشروع الأنماء والأعمار الذي بدأ في العام 1991 مع أفتتاح ورشة أعادة بناء الوسط التجاري في بيروت. لا مستقبل للبنان من دون هذا المشروع الذي يؤسس لأعادة بناء الطبقة المتوسطة وتوسيعها، لأن لا لبنان من دون طبقة متوسطة تشكّل العمود الفقري للبلد وثروته الحقيقية بمساهمتها في أيجاد قاسم مشترك وقيم مشتركة بين اللبنانيين. أن الطبقة المتوسّطة كانت في أساس صمود لبنان طوال فترة الحرب التي أمتدّت من العام 1975 الى العام 1990 لدى القضاء على تمرّد العماد ميشال عون الذي لم يُحسن ولن يحسن يوماً قراءة معنى أتفاق الطائف وأهميته على الصعد الداخلية والأقليمية والدولية.

من دون طبقة متوسّطة لا قيامة للبنان، لذلك تنصب الجهود منذ العام 1998، أي منذ وصول الرئيس أميل لحود الى الرئاسة على تعطيل مشروع الأنماء والأعمار بغية تعطيل المشروع المفضي الى تعزيز دور الطبقة المتوسطة التي تضم عائلات من كل المناطق والمذاهب، عائلات تؤمن بأن التقدم على الصعيد الفردي والعائلي والوطني مرتبط الى حدّ كبير بالتعليم المتطور الذي يشكل الثروة الحقيقية التي لا بد من المحافظة عليها، أضافة بالطبع الى أنها ضمانة المستقبل لأي فرد من أفراد العائلة.
متى يحصل تفاهم على الأسس، يمكن الحديث عندئذ عن حوار مثمر بين اللبنانيين بعيدأً عن أي نوع من الشعارات الفارغة التي لا هدف منها سوى تبرير الأرتباط بأجندات خارجية لا علاقة لها بلبنان لا من قريب ولا من بعيد. متى يحصل تفاهم على الأسس، يمكن البحث في مسائل بديهية من النوع الذي يعطي معنى للكلام عن المقاومة وضرورة المحافظة على المقاومة، هل السلاح يضمن لشيعة لبنان حقوقهم أم الدولة العادلة التي تحافظ على حقوق جميع المواطنين وتحميها؟ هذا أحد السؤالين الكبيرين اللذين لا بدّ من طرحهما بدل الدخول في جدل بيزنطي لا فائدة منه في شأن القرار 1559 الذي يدعو الى حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية. أما السؤال الكبير الآخر، فهو مرتبط بالخيارات المسيحية ومستقبل المسيحيين في لبنان ومدى أرتباطه بوجود رئيس قوي يتكل على المعادلات الأقليمية من أجل حماية موقعه كما فعل أميل لحّود الذي أعتبر أن الأستزلام للنظام السوري يمكن أن يعوّض ما فقده الرئيس المسيحي من صلاحيات بسبب أتفاق الطائف. لم يدرك أميل لحّود أن الصلاحيات التي فقدها رئيس الجمهورية في أساس المعادلة الجديدة التي تحكم العلاقات بين اللبنانيين لا أكثر ولا أقل وهي تساهم الى حدّ كبير في جعل المسؤوليات المتعلقة بالمحافظة على لبنان المستقلّ وحمايته موزعة على الجميع بدل أن تكون محصورة بالمسيحيين وبالموارنة تحديداً.

ثمة نضج لدى الدروز الذين باتوا يعون أن لبنان وطن نهائي لا بديل منه. وثمة نضج لدى قسم كبير من أهل السنّة بدأوا يدركون أن لبنان ذو المجتمع المتسامح والنظام الديموقراطي خير من نظام يرفع شعارات العروبة وينفّذ عملياً ما تطلبه أسرائيل. لقد أدرك أهل السنّة بعد مخاض عسير أن لبنان بالنسبة اليهم ،أفضل من أي مكان آخر وان ولاءهم يجب أن يكون له وليس للخارج، لا لجمال عبد الناصر ولا لياسر عرفات وليس لرافعي الشعارات العروبية المزيفة من بعثيين وغير بعثيين في دمشق أو في بغداد.
في النهاية، ليس أمام أي مؤتمر أو لقاء يبحث في الحوار بين اللبنانيين سوى مواجهة الحقائق كما هي بعيداً عن أي نوع من المسايرة. والحقائق تعني أوّل ما تعني ما هي الكلفة التي سيتحملها لبنان في حال أصرّ على رفع شعار المقاومة فيما كل الجبهات العربية الأخرى صامتة؟ ما كلفة الحديث عن المقاومة التي تخدم الحور السوري- الأيراني ليس ألاّ والتمسّك بها في حين أن المقاومة التي ينادي بها quot;حزب اللهquot; تحوّلت عراضات لا هدف منها سوى تخويف اللبنانيين الآخرين وتذكيرهم بأن هناك فريقاً مسلحاً قادراً على أجتياح بيروت وغير بيروت ساعة يشاء؟
الكلفة ولا شيء غير الكلفة. ذلك ما يفترض أن يكون عنوان أي حوار بين اللبنانيين، في حال كانت هناك رغبة في الوصول الى نتيجة تصب في مصلحة الشعب والبلد. لماذا لبنان خائن من دون quot;مقاومةquot; ولماذا النظام السوري نظام وطني من الواجب الأقتداء به في وقت لم تطلق رصاصة من الجولان منذ أحلته أسرائيل في العام 1967، خصوصاً منذ التوصل الى أتفاق فك الأشتباك بين سوريا وأسرائيل في العام 1974 بفضل مساعي هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي وقتذاك؟ هل لبنان خائن لأنه يحترم quot;الخط الأزرقquot; وهو خط أتفاق الهدنة مع أسرائيل في العام 1949 وسوريا- النظام وطنية لأنها تحترم أتفاق فك الأشتباك مع أسرائيل الذي أبقى على جزء لا بأس به من أراضيها تحت الأحتلال؟ لماذا لا يقيم لبنان حسابات على الطريقة السورية؟ لو كانت سوريا- النظام قادرة على تحقيق أرباح، هل كانت ألتزمت الهدوء ولا شيء غير الهدوء مع أسرائيل التي تحتلّ أراضيها وراحت تطلق يومياً الصيحات المحذرة من المسّ بالمقاومة في لبنان؟ أن المقاومة تصبح حلالاً عندما يكون الخاسر لبنان وعندما تكون على حساب الشعب اللبناني الذي لن يكون قادراً عندئذ على الأستمرار في التنمية التي تصب في مصلحة كل الناس الى أي فئة أو طائفة أنتموا!
لا حاجة الى شعارات ترفع في أي حوار بين اللبنانيين. كل ما في الأمر أن الموضوع يتعلّق بالكلفة، كلفة المقاومة وما تفرضه من ضريبة على المواطن اللبناني الذي عليه أن يتحملّها بالغصب منه من أجل أن أن يعقد النظام السوري أو النظام الأيراني صفقة على حساب لبنان واللبنانين يخرج منها النظامان رافعين شعارات الوطنية والتقدمية والأنتصار على الأمبريالية! تلك هي الحقيقة. وكل ما عدا ذلك تفاصيل لا معنى لها بأستثناء أنها تشكّل أعباء لا قدرة للبنان على تحمّلها من اجل أن ينعم غيره بصفقة من هنا أو هناك أو هنالك بأسم محاربة quot;الشيطان الأكبرquot; الذي لا يلبث أن يتحوّل شيطاناً ظريفاً عندما يُضحي بلبنان واللبنانين!

لا يربح لبنان شيئاً خارج مشروع الأنماء والأعمار، ولذلك كان ذلك الأصرار على تعطيل المشروع بحجة المقاومة أحياناً وبحجة التصدي للفساد في احيان كثيرة، الى أن تبين أن الفاسدين الحقيقيين هم الذين يعطّلون المشروع خدمة لأسيادهم خارج لبنان. متى يدرك اللبنانيون هذه الحقيقة، لا تعود حاجة الى حوار. تعود حاجة فقط الى تحديد الأولويات. الأولويات في متابعة المشروع الحضاري الوحيد المطروح على اللبنانيين والهادف الى توسيع الطبقة المتوسّطة في البلد وجعل تجربة أعادة أعمار الوسط التجاري تمتد الى مناطق لبنانية أخرى كي يستفيد منها أكبر عددٍ من اللبنانيين خصوصاً في محيط بيروت. أن الطبقة المتوسطة التي تعلّم أبناؤها في أفضل الجامعات بنت لبنان وستبنيه مجدداً مستندة الى مشروع الأعمار الذي أنطلق من وسط بيروت. ذلك هو التحدّي الذي يواجه لبنان واللبنانين في وجه قوى الظلام الساعية الى أبقاء البلد مجرد quot;ساحةquot; بدل أن يكون قادراً على البحث عن مصلحته الحقيقية بغض النظر عما يريده هذا الطرف الخارجي أو ذاك. أن السؤال عن الكلفة بما في ذلك كلفة المقاومة التي يتمسّك بها النظامان في سوريا وأيران هو الذي يعطي معنى للحوار بين اللبنانيين يعيداً عن الكلام التخويني الذي لا فائدة منه. مثل هذا الحوار اكثر من مطلوب خصوصاً اذا كان هناك من يتجرأ على خوضه!