في العراق الهائج المائج اليوم، وحيث تدمير المساجد والمقابر والأضرحة والإغتيالات والتطهير الطائفي المقيت، تدور رحى حروب طائفية مصغرة لم تصل لدرجة الشمولية بعد! رغم أن الباب والشباك وكل شيء في العراق مفتوح لذلك الخيار المدمر والمؤلم والذي يمثل الحصيلة الحقيقية والخلاصة النهائية لتجربة حكم حزب البعث الشمولية المشوهة والتي وضعت العراق وشعبه على منصات التشريح البيولوجي والفسيولوجي والأنثروبولوجي!، فليس سرا أن الشعب العراقي وطوائفه كان طيلة فترة الهيمنة الفاشية البعثية محط إختبارات نفسية معمقة لجأت إليها السلطات البائدة في محاولة للتمكن من أطول فترة هيمنة وتسلط ممكنة وأسر وإستعباد ونهب ثروات الشعب العراقي وتكريس الطائفية والعشائرية والمناطقية بطرق وأساليب كانت غاية في الخبث، فلقد كانت حكومة البعث البائدة لا تتردد أبدا في التأكيد على خلودها في السلطة وتمسكها بها مهما كانت الظروف والأحوال، وقد وصلت الثقة بالنظام البائد إلى حد القول من أن جيشه مستعد لقتال الجيشين الروسي والأمريكي مجتمعين بالسلاح التقليدي!! وهذه كانت تصريحات صدام المعروفة والموثقة وهو الذي كان مهموما بما سيقوله التاريخ عنه بعد 500 عام على إعتبار أنه صاحب رسالة مقدسة كما يتوهم!!؟، بل أن المخطط الإرهابي الذي كان يستند عليه لحكم العراق كان مؤطر ببرنامج عمل إستخباري واسع المدى طالما عبر عنه علانية وصراحة بالقول الصريح منذ أوائل أيام إنفراده بالسلطة بعد تصفية رفاقه في الحزب والقيادة في مجزرة صيف 1979 بالقول: (من يفكر بأخذ العراق منا.. سنسلمه العراق أرضا بدون شعب)!!.. ذلك التصريح الشمشوني لم يكن مجرد هراء من الكلمات الجوفاء التي كثيرا ما وردت على لسان صدام وبطانته، بقدر ما كان برنامج سلطة مستقبلي يحدد المحاور والأسس العامة لآيديولوجية النظام والفكر البعثي التدميرية؟، ففي العراق تتوفر كل عوامل التشظي والتدمير في نفس الوقت الذي تتوفر فيه عوامل الإبداع والتقدم، والمتمكن من التعامل مع طرف المعادلة المعقدة سيخرج بالنتيجة التي يريدها سلبا كانت أم إيجابا؟.
وما يدور اليوم من إعادة تشكيل للصورة السياسية ولمستقبل الوضع العراقي بشكل عام لا ينفصل في الأساس عن مخطط النظام البائد، فحالة الفراغ السياسي المرعبة لم تستطع الأحزاب العراقية الموجودة على الأرض ملأ مجالاتها الحيوية، بل كانت تلك الأحزاب جزءا لا يتجزأ من حالة التدمير العراقية، لقد هيأ النظام البائد الأرضية الفكرية والتنظيمية لنزاعات عقائدية ومذهبية خلال سنواته الأخيرة والتي بانت معالمها مع ما كان يسمى ب (الحملة الإيمانية) منذ عام 1994، وهي الحملة التي تم من خلالها خلق نماذج لقيادات وتشكيلات طائفية من شأنها أن تعوض فشل حزب البعث في الشارع العراقي، لذلك وبعد سقوط النظام مباشرة في التاسع من نيسان/ إبريل 2003 إختفى حزب البعث وتشتت بالكامل سوى من بعض بيانات رديئة ليظهر معادله الموضوعي وربيبه وإحتياطيه (المضموم) وهي الجيوش الطائفية ذات الأسماء الدينية الرنانة مثل (جيش محمد) تبارك إسمه الطاهر عن تلك الجماعات! أو (جيش المهدي)!! أو (جيش الطائفة المنصورة)!! وهي طبعا تمثل الخطوة المركزية والأولى في وضع لبنات الحرب التقسيمية والطائفية التي ستبقي العراق أرضا بدون شعب.. حسب وعد وتصور النظام البائد، فليس أسهل من إستغلال الدين والطائفة في حروب الشرق التدميرية؟، ومع توافد الأحزاب والجماعات الدينية القادمة براياتها السوداء وبصراعاتها وعقدها التاريخية من الشرق تكرست حقيقة الإنشطار الطائفي والمذهبي، وكانت راية الدين والعقيدة هي المظلة التي إختفى تحت ظلها البعثيون الذين تحولوا فجأة لمبشرين بالدين والعقيدة والمذهب وليشهد الشارع العراقي تكوين هيئات لعلماء المسلمين وأحزاب للفضيلة وتيارات إسلامية جل أعضاؤها من البعثيين السابقين وبعضهم كانوا من قادة المشروع البعثي ثقافيا وسياسيا وإعلاميا!! فذلك الذي كنا نراه على شاشة (الجزيرة وأخواتها) عشية حرب تحرير العراق وهو يندد ويدافع عن نظام صدام تحول اليوم ليدافع عن الإسلام وعن أهل السنة؟؟، وذلك السيد (الشيعي) الذي صمت دهرا وكان متفاهما مع صدام تحول اليوم فجأة لبطل التحرير الوطني، بل و يطالب علنا بإستقلال (الشيعة) وتقسيم العراق! وتجنيد الجيوش والجحوش دفاعا عن نظامي دمشق وطهران ولأسباب طائفية لا تخطأ العين الخبيرة قراءة دلالاتها!، لا بل أن الوطنية العراقية والحرص على العراقيين قد تلاشت بالكامل وإندثر تراث الحركة الوطنية العراقية في ظل ضجيج المساجد والهيئات والحسينيات و دجل أهل العمائم المستحدثة الذين يتحدثون بمشاريع هي أكبر من حجومهم الحقيقية بكثير، كذلك الشيخ من حزب الفضيلة الذي هدد بتجويع الأكراد والسنة وقطع موارد البترول العراقي عنهم!! في كلمات مضحكة وأسلوب ساذج ومهتريء يدلل على مدى هشاشة الوضع العراقي والذي يدفع المواطن العراقي المسكين وحده ثمنه، فالشعب العراقي قد أدى الأمانة، وتجاوب بالكامل مع كل مشاريع الإصلاح والتغيير، وخرج بفدائية صفق لها العالم لإنجاح العملية الديمقراطية وتمرير الإنتخابات، إلا أن القوى السياسية والميدانية قد فشلت فشلا ذريعا في تحقيق الحد الأدنى من الوعود والخدمات، وهذه الأحزاب قد فشلت حتى اليوم وبعد مرور ثلاثة أشهر على الإنتخابات من التمكن من تشكيل حكومة عراقية في ظاهرة عجيبة لم يشهدها عالمنا المعاصر تشكل عنصرا إضافيا على الفشل الواضح في كل المهام الوطنية، والغريب أن بعض الزعامات الشيعية كلما أعيتها الحيلة تحاول الإختباء والتخفي خلف عباءة المرجع الديني السيد (علي السيستاني)!! والذي هو في النهاية رجل دين إيراني الجنسية يحاولون توريطه ومعه الحوزة الدينية في مشاكل سياسية عويصة لا تؤدي بالنتيجة سوى لمزيد من الإنقسام والتشتت والفرقة وتحصين المواقع الطائفية وحفر خنادق الحرب الأهلية الواسعة القادمة لا محالة فيما لو لم تقل الجماهير العراقية كلمتها في الموضوع؟ فجل الأحزاب الدينية العراقية سنية كانت أم شيعية مرتبطة بمراجع خارج الحدود العراقية ولا تراعي المصلحة الوطنية العليا بقدر ما تراعي إمتدادتها الفكرية والمصلحية.
العراق وشعبه اليوم أمام ساعة الحقيقة بعد أن نجح الإرهابيون والبعثيون والتكفيريون وعملاء النظام الإيراني المأزوم لدفعه للإقتراب من خيار التدمير الذاتي، وبصراحة أقول ما لم تتدخل القوى الدولية التي فرضت التغيير في العراق لفرض النظام وضمان وحدة العراق، فإن البلد يسير نحو الهاوية التي سينتهي معها الكيان العراقي الموحد الذي ظهر للوجود عام 1921، فكل القوى العراقية المتصارعة اليوم لم تسقط نظام البعث وصدام بل أن بعضها كان في خدمة ذلك النظام؟ والذي فرض التغيير هو وحده الذي سيمنع التدمير والتفكك... وبعكس ذلك قولوا على العراق السلام...
[email protected]