ليس فيما قاله السيِّد وليد جنبلاط في الولايات المتَّحدة، سواء في معهد quot;صبانquot; أم في وزارة الخارجيَّة من جديد. الجديد هو المكان والتوقيت. لقد كان لافتًا للنظر حالة العمى والصم والبكم التي ضربت معظم المؤتمرين في بيروت، لا سيَّما جماعة الرابع عشر من آذار منهم. لقد أنكر معظمهم أن يكون قد سمع خطاب السيِّد جنبلاط أو قرأه. لا بأس، فالخطاب كان محرجًا للكثيرين منهم، وربَّما ينهي الحوار قاطبة. ما يعنينا هنا هو الأسباب والنتائج.

في خطابه، قصف جنبلاط عشوائيًّا في اتِّجاه أهداف محدَّدة، معظمها من حلفائه. فبعد أن كان قد حدَّد quot;العدوquot;، سورية، وquot;اللاعدوquot;، quot;إسرائيل، أصبح عليه أن يُفهم حلفاءه مَن هو quot;الرئيسquot; بينهم ولماذا، وأن يُعْلِمَ الجميع أنَّ طريق بعبدا تمرُّ في المختارة حتمًا. وهذا لا يتسنَّى إلاَّ من على منبر أميركي تفتحه الولايات المتَّحدة لمَن هم مثل السيِّد جنبلاط بشرطين: الأوَّل أن يتصالح مع المؤسَّسة الإسرائيليَّة، والثاني أن يعلن quot;التوبةquot; ويطلب الغفران. هذا ما فعله جنبلاط في واحد من أكثر مراكز الصهيونيَّةِ صهيونيَّةً أي مركز quot;حاييم صبانquot; الذي كان من أوَّل المراكز الأميركيَّة التي دعت لاحتلال العراق. من هناك، تلا وليد بيك فعل الندامة لأنَّه: quot;لم يكن يملك شجاعة كمال جنبلاط الذي وقف في جه السوريِّين فقتلوهquot; على حدِّ تعبيره. ومن هناك أيضًا، طلب الغفران الإسرائيلي: quot;إنَّ حزب الله ميليشيا يجب تفكيكها، ومزارع شبعا ليست لبنانيَّة، ويجب تغيير النظام الديكتاتوري في سورية.quot;

لقد توخَّى السيِّد جنبلاط من زيارته قطع الطريق على أكثر من حليف له بدءًا من النائب سعد الدين الحريري، ثمَّ السيِّد سمير جعجع. فشخصٌ مثل جنبلاط لا يتحمَّل أن يقبع في المختارة، بينما الرئيس الأميركي يستقبل السيِّد سعد الدين الحريري والبطريرك صفير. ولا يستطيع أن يطمئنَّ إلى علاقة السيِّد سمير جعجع بإسرائيل والولايات المتَّحدة. فالعلاقات القديمة يمكن إحياؤها، هذا إذا كانت قد ماتت. لقد أراد جنبلاط أن يكون البوَّابة العريضة للأمريكان، عبر ولوجه من الباب الإسرائيلي الضيِّق. فهو يعرف أنَّه الطرف الأضعف بما يمثِّل ضمن المنطق الطائفي في لبنان. وهو يتذكَّر قطعًا كيف أضعف التحالف الماروني ndash; السنِّي مركز إقطاعيَّة عائلته سنة 1943، كما أنَّه يعرف كيف غيَّر التعداد السكَّاني، وتحرير الجنوب من موقع الطائفة الشيعيَّة في لبنان والمحيط.

غير أنَّ خطوة جنبلاط هذه ليست من دون أخطارها. لقد نقل الرجل موقعه عبر استدارة كاملة قياسها مائة وثمانون درجة. وهذا لن يمرَّ بسلام ليس فقط مع خصومه، بل حتَّى مع بعض خاصَّته ممَّن يرون في إسرائيل عدوًّا، أو ممَّن يخشون عزلة كاملة لطائفتهم. ثانيًا، إنَّ ضربته الاستباقيَّة هذه ستزيد من حذر حلفائه منه. فالذي استطاع طعن حليف الأمس السوري في الظهر لن يتواني عن طعن حليف اليوم في الظهر أيضًا. والذي احتجَّ بقلَّة الشجاعة عذرًا منعه من الوقوف في وجه quot;الديكتاتور السوريquot;، يحتجُّ غدًا بقلة الشجاعة عذرًا منعه من الوقوف في وجه quot;الإمبرياليَّة الأمريكيَّة.quot; أكثر من هذا، فإن حليفي جنبلاط اللدودين: سعد الدين الحريري وسمير جعجع وما يمثلان، يرى كلٌّ منهما أنَّ طريق بعبدا، وكلَّ ما ترمز إليه، تمرُّ أوَّلاً في بكركي وثانيًا في قريطم. والسيِّد برِّي كذلك quot;يمشي وراء غبطته.quot; أمَّا العماد عون، فلا يرى طريقًا سوى الرابية.
هل أخطأ جنبلاط؟ في رأينا، نعم. إنَّها خطوة يائسة كان في غنًى عنها. فضلاً أنَّ من كان أقوى منه بكثير جرَّبها فكانت عواقبها وخيمة، ليس فقط بسبب رفضها شعبيًّا، بل لأنَّ الإسرائيلي والأميركي صديقان لا يركن إليهما.