من عادة وطبائع المجتمعات المقهورة بعد سقوط أنظمة القهر والموت التي تحكمت طويلا أن تنفس عن صدورها وتبرز كل المكبوتات التي كانت حبيسة لعقودطويلة ولم تستطع أن تعبر عنها سابقا لذلك فإن ظواهرا شاذة عديدة قد تطفو على السطح، وتيارات غريبة أخرى قد أعلنت عن وجودها الميداني مستغلة حالة الحرية الجديدة ونعمتها التي حولتها الممارسات المتخلفة لنقمة، وهذا أمر طبيعي للغاية، وهو بالتالي من طبائع الأمور!، ولكن مايحصل في العراق اليوم من ظواهر شاذة يؤكد من أن الأمر أكبر بكثير من أي تنفس أو أية توجهات طبيعية للحرية الجديدة ! بل أنه عمل مدبر وبشكل واضح وبهدف تفتيت الجبهة الداخلية العراقية وزرع كل مستلزمات وأدوات وخطط التقسيم الإثني والطائفي، ومحاولة الإلتفاف على حلم العراقيين بمختلف طوائفهم وإنتماءاتهم ومللهم ونحلهم، وسعيهم الدائم للحرية والديمقراطية والحياة العصرية الحديثة تحت أقنعة الدين الحنيف والتمسك بعصا الشريعة وبالعودة إلى الجذور!! وهي جميعها شعارات براقة وزاهية ولكن تخفي تحت صورها الملونة كل ألوان وأشكال السم الزعاف وتحمل كل وصفات التخلف والإنحطاط الحضاري وفرض الجهل والطغيان والإسلام الحقيقي المسالم الحضاري بريء من كل تلك الظواهر الشاذة المعبرة عن إفرازات مرحلة شاذة في زمن عراقي إتسم بالشذوذ وإمتد لأكثر من أربعين عاما تهشمت خلالها الدولة وفقد المجتمع العراقي تجانسه، وتمت العودة للعصبيات والصلات العشائرية والمناطقية وساد الفراغ الروحي المترافق مع الإفلاس الفكري والنهم المادي ليشكل اليوم الصورة الواضحة للعراق المريض والذي للأسف لم تستطع كل الوصفات السريعة الجاهزة من أميركية أو إسلامية من إيقاف نزيفه القاتل المدمر! كما لم يستطع كل (الأطباء) الذين يتصارعون على حكمه اليوم من إيجاد وصفة العلاج اللازمة للخروج من حالة الحمى والنزيف العراقية المستمرة؟،. فالأطباء بعد أن تحولوا لساسة في العراق الجديد فقدوا سمو الطب ورسالته الإنسانية وعبثوا في السياسة و زادوها تخريبا وعبثا! فما أكثر الأطباء وما أقل الدواء؟ وهنا تكمن المفارقة؟

لقد عانى العراق طيلة تاريخه المعاصر شعبا وكيانا من سلطة عسكرية طائفية ثم بعثية فاشية بمسوح قومية مزيفة وبحقيقة عشائرية وطائفية نتنة وتحت واجهة حزبية بغيضة وكريهة ومشبوهة إسمها (حزب البعث العربي الإشتراكي) الذي لم يكن في يوم ما يمتلك مواصفات الحزب السياسي صاحب الآيديولوجية، بل كان مجرد وعاء تنظيمي وإرهابي تهيمن عليه عشيرة ذهبية يقودها قائد أوحد وأرعن وغبي لاشريك له أورد البلاد والعباد مورد الهلاك وتسببت سياساته الغبية الحمقاء في تحطيم كل أسس ومقومات الدولة العراقية وتقاليدها ومؤسساتها ليعود العراق ككيان سياسي لمرحلة ماقبل الحرب العالمية الأولى، ولتندثر كل ذكريات وإنجازات الدولة الوطنية العراقية كأنها لم تكن في يوم ما! فبمجرد إنهيار رأس النظام الفاسد الغبي إنهارت الدولة وضاع كل شيء!! وهنا تتبين مدى هشاشة الدولة العراقية التي سقطت وتلاشت مع سقوط الفرد والعشيرة وحيث دخل الأميركان أصحاب الفضل الأول في إسقاط النظام وتحرير الإرادة الشعبية ليجدوا القوم في العراق وقد إختلفوا على كل شيء وأي شيء، ولتسود الأحقاد والتصفيات حتى بين أبناء الطائفة الواحدة، ولتحاول كل التيارات شد الحبال للهيمنة على الكيان العراقي الوليد الجديد الخارج من رماد حروب البعث العبثية الفاشلة، لقد تردد منذ زمن قول قيل أنه منسوب لآخر رئيس وزراء عراقي في العهد الملكي وهو المرحوم نوري السعيد الذي يعتبر أحد مؤسسي الكيان العراقي الحديث يصف فيه العراق ب (البالوعة)!! وهو يعتبر نفسه غطاء لتلك البالوعة! فإذا ما إنكشف الغطاء فاحت الروائح (العطرة)!! وكان يحذر ويوصي بالحفاظ على غطاء البالوعة!! ويبدو أن أقوال (الباشا) الراحل لم تكن مجرد قفشات فكاهية عرف بها وتميز رحمه الله، بل كانت تعبيرا عن فهم عميق لسلوكيات وإتجاهات الرياح والأهواء الشعبية العراقية، وكانت وصفة تاريخية وحكمة لم تؤخذ في وقتها موقف الجد؟ وحيث تهيمن اليوم على الشارع العراقي المشدوه والحائر تيارات دينية وظلامية بأسماء وواجهات ومصالح عديدة أقل مايمكن وصفها ب (الظواهر الكارثية) والخطرة على مستقبل الحياة السياسية وعلى الوحدة الوطنية العراقية ذاتها ويشكل وجودها المستفز أحد أسرع الطرق نحو الحرب الأهلية التي أضحت اليوم خيارا متداولا حتى على لسان (رامسفيلد)!! فكل الخيارات مفتوحة؟، لا يسعنااللجوء للغة الطمأنة والإغراق في الخيال لنقول أن الوضع (رائع ومثالي وواعد)! بل على العكس من ذلك تماما فالحالة الشاذة القائمة في العراق حاليا تقتضي من جميع قوى الشعب الحية وتياراته الحرة قرع أكثر من جرس إنذار للإفلات من المصير السوداوي المفجع الذي يريدونه للعراق!، فلقد تناسلت العمائم المزيفة والطامحة للشهرة والهيمنة بشكل أميبي مقلق وهي عمائم مسيسة وخبيثة لاعلاقة لها بسماحة الإسلام الذي نعرف وتعرفون! وأصحابها لهم من الجهل المقيم والسذاجة القاتلة إلى الدرجة التي تجعلهم يتصورون أنفسهم بأنهم الأوصياء على الشعب العراقي وبأنهم الذين أسقطوا النظام البعثي وبأنهم تبعا لذلك (الخلفاء الراشدون) وأئمة الهدى والعترة المنتجبة للمرحلة العراقية الجديدة! ولعل قمة الإستهتار القيمي والروحي هو ماتردد مؤخرا عن قيام مجاميع مجاهدي ومؤمني آخر الزمان من السنة والشيعة بفرض قوانينهم الصدئة بالقوة والإكراه على رؤوس العراقيين، وتصاعد حملات القتل والتصفية المتبادلة بين الفرقاء التي يردون إلباسها لباسا طائفيا مقيتا كمقدمة موضوعية لإعلان الحرب الأهلية وهي مشروع الفاشية الخالد مع تصاعد التهديدات الوقحة والجبانة لدرجة القتل!! لكل من يعارض أو يستنكر ما يجري من امور دون أن ننسى محاولات البعض من التافهين بفرض القوانين المشددة وإجبار النساء على إرتداء الحجاب بالقوة وتحت طائلة التهديد بالقتل أو الخطف ومحاولة (أسلمة) المجتمع بالقوة وكأن العراقيين ليسوا بمسلمين أو مؤمنين !! وهي قضية غريبة ومتطرفة لم تحدث في أشد الأنظمة الدينية راديكالية بإستثناء ممارسات عصابة الطالبان الأفغانية البائدة وحيث تم اللجوء للبلطجة وفرض التعتيم والقسر وإجبار النساء العراقيات على العودة لعصور الحريم والتخلف وإرتداء الأحجبة السوداء الغريبة عن ثقافتنا الإسلامية الحقيقية وعن الواقع العراقي المتسامح المعروف والمنفتح، وعلى إشاعة ثقافة الجهل الدينية المستندة لكم هائل من الموروثات الشعبية والأفكار البدائية الساذجة التي تماشي رغبات الغوغاء والجهلة وماأكثرهم في ليل العراق الطويل، فالنظام العراقي البعثي البائد لم ينته بسهولة بل تبخر وتلاشى وإضمحل في دخان هزائمه ومن تعمم بعد التحرير الأميركي فهو إنما يماشي موضة حديثة سرت سريان النار في الهشيم وهو تعمم لايختلف عن الإنتماء سابقا لأجهزة النظام القمعية والإرهابية؟، ففي الجنوب العراقي وفي مدينة البصرة تحديدا (وهي قاعدة النفوذ المخابراتي الإيراني) إنتشرت ظاهرة الإبتزاز الديني بشكل فج ومؤسف لتشكل إهانة لأحرار العراق عبر إصرار العصابات الدينية التي تمولها المخابرات الإيرانية على مضايقة العراقيات وتطفيش الطائفة المسيحية العراقية المسالمة الجميلة، وسابقا شهدنا تمدد سرطان الإمارة الإسلامية السلفية المتوحشة في الفلوجة ومناطق غرب العراق ليحاولون إحتواء العراق بأسره في تكتيك إرهابي بائس وخبيث تديره عصابات جماعة العلماء البعثيين والتكفيريين وأحقادهم العنصرية والطائفية المريضة وجزعهم المخيف من فقدان الحظوة والإمتيازات والهيمنة للأبد، فما هو سائد ميدانيا من أحزاب وتيارات لا يعبر عن الهوية العراقية ولا الفكر العراقي ولا الهوى العراقي ولا الروح الدينية و الطائفية المتسامحة العراقية سواءا من السنة والشيعة الذين لم يتعودوا فرض الآراء بالقوة ولا محاسبة الناس على المزاج ولا التدخل في خيارات الناس الحياتية وشكل لبسهم ومأكلهم! وإنما هو غزو جاهلي من نوع آخر نعرفه جميعا ونعرف من يقف خلفه ويموله ويحرص على سيادته! إنني لا أتهم بل أعلنها بصراحة من أن المخابرات الإيرانية وأجهزتها السرية قد تغلغلت بعيدا لتمعن في تمزيق الجسد العراقي المثخن بالجراح ولتعرقل عملية النهضة والتخلص من كل بقايا الفاشية البعثية وإستبدالها بفاشية دينية طائفية أشد وطأة وأكثر إجراما وأشد سوادا من الليل العراقي البهيم الذي طال أكثر مما ينبغي، وكذلك تفعل إمارات الطالبان المتوحشة في غرب العراق والتي باتت تلجأ لسياسة (التطهير الطائفي) والممولة من بعض مخابرات دول الجوار وتحديدا من النظام السوري الآيل للسقوط فأسماء الأحزاب والتظيمات التي سطت ومازالت تسطو على مقرات الشعب العراقي ومبانيه العامة هي أسماء ومسميات غريبة ومستوردة و لا علاقة لها بالتصنيف والمزاج العراقي بل أنه حتى الوجوه واللهجات واللباس تفضح الفاعلين وأعمالهم وغاياتهم، والمؤلم أن بعض الزعامات الدينية الشابة والتي لا تمتلك من الخبرة ولا من حكمة السنين سوى الأسماء العائلية الرنانة والتي ليس لها أدنى إعتبار في ما نحن بصدده تمارس عمليات تغطية شرعية لتلكم الجماعات وفكرها الظلامي المتخلف ! وتساهم بشكل فاعل في التخريب الممنهج، وإلا بربكم هل من الحكمة في شيء فضلا عن الإنسانية ذلك القول المنسوب لأحدهم والذي يقول:quot;أن هجمة نيويورك (11 سبتنمبر 2001) هي معجزة إلهيةquot;!! وهي الهجمة التي فتحت بوابة جهنم!

أي معجزة يا سيدنا الولي الفقيه المستحث في قتل الأرواح البريئة، وفي تدمير وإزهاق أرواح الناس و ممتلكاتهم، وفي إشاعة الفوضى والدمار الشامل لخلق الله؟ وهل تتم مجازاة من إنتصف من صدام ونظامه وأشفى غليل المستضعفين، وساهم في كشف وفضح مقابر البعث الجماعية بهذه الطريقة الفاشية الفجة؟ وأين المنطق الديني في تحريم قتل النفوس إلا بالحق؟ وأين صورتنا الحضارية التي نتحدث عنها ولانراها؟ وهل من سمات المعممين السماحة والرفق والحرص على دماء المسلمين ! أم القتل والإرهاب الأسود والتهديد بقطع رؤوس العراقيات وهي الخطوة الحقيرة ذاتها التي أقدمت عليها عصابات فدائيو صدام البائد في أخريات أيامه بحجة الحفاظ على الشرف والفضيلة؟ وهل نبقى أسرى للشعارات الواهية فيما شعوبنا تزحف على بطونها من الجوع والحرمان والإقصاء بينما شيوخنا ومعممينا ينظرون للموت البشع ويشمتون بمصارع الأبرياء؟. كما أن مجازر التقاتل الطائفي الشنيعة و المؤسفة المستعرة حاليا تكريس لذلك الجهل الديني والتعصب الأخرق وحتى كلمات الإدانة التي أطلقت من بعض المنابر كانت كلمات مزيفة تحاول لملمة الموقف والإستعداد لمجزرة جديدة يكون وقودها الناس والحجارة والسمعة العراقية، لقد تحولت الظاهرة الدينية السياسية السائدة في العراق اليوم لوباء أسود من الحقد وموجات التدمير الشامل وستتحول لما هو أشد ما لم يتخلى العراقيون عن سلبيتهم ويحجموا تلك الرموز الضئيلة والتي ما برزت إلا بسبب الفراغ القيادي المفجع لمؤسسات الفكر الحر ولمنظمات المجتمع المدني، و بالإعتماد على النظرة الإتكالية العامة السائدة والمسماة عراقيا نظرية : { آني شعليه }!! أي لا علاقة للناس بما يحصل ويتبلور، فقد تسللت عمائم البعث النافق من نقطة الضعف تلك ومارسوا إرهابهم وتخريبهم الفظيع متسلحين بخبرة (حملتهم الإيمانية) السابقة، واليوم يحاول المتأسلمون والجهلة والفاشيون تحت الأغطية الدينية التسلل والهيمنة من جديد بشعاراتهم البائسة ووجوههم الكالحة والمكفهرة بالحقد... فهل من وقفة شعبية عراقية شاملة تعيد العقل المسلوب وتمنع الفاشية الدينية من التمدد لتدمر كل شيء؟ خصوصا وأن أحداث سامراء والنهروان والمدائن المروعة قد تذهب بأخر مصداقية لحضارة وأصالة وتسامح مجتمعاتنا!، ودعوات الأحرار في العراق وخارجه لضرورة التصدي الحازم والشامل لقوى الظلام الطائفية التدميرية تؤكد ضرورة المواجهة الحاسمة وإستئصال شأفة الإرهاب مهما كان الثمن، فلاينبغي أن يكون هنالك أي تساهل مع أهل الفكر التكفيري من المشوهين والقتلة لأن الفاشية المتسترة خلف الشعارات الدينية أثبتت على المحك بأنها أخطر من جميع أسلحة الدمار الشامل الموجودة أو المستترة، لأنها بإختصار سلاح تدميري منفلت من عقالهّ! ويهدد بالدمار الشامل وحدة الوطن والشعب في العراق وهو يتهيأ لدخول العصر الحديث بعد قرون من تخلف الشعارات القومية والدينية المزيفة العجفاء. فرؤوسا عديدة للفتنة في العراق قد أينعت وحان قطافها !، ولا وألف لا لعصابات التكفير وفرض التخلف.. إنها صرخة تحذير من ضياع وطن تحمل شعبه الكثير من المحن، ألا لعن الله الفتنة ومن أيقظها من عمائم (أم المعارك) وأخواتها ومن تلاميذ الولي الفقيه النجباء الذين يؤدون اليوم خدمات عقد التخادم المصلحي، إنها لحظات العراق التاريخية الفاصلة.

[email protected]