اذا كان كوبرنيكوس قد وصل إلى قلب مفهوم دوران الشمس والأرض بمفهوم عكوس؛ فإن فكرة جدلية (الأمة والسلطان) من هذا النوع، بأن الأمة شمس، والحاكم كوكب. واهمية نظرية كوبرنيكوس الانقلابية أنها أعطتنا فهما جديدا حول من يدور حول من؟؟
وفكر انقلابي من هذا النوع يحرر الوعي، ويوجه الجهد إلى الحراثة في الحقل المفيد، وبه بتغيير نظام الفكر كلية . فنتخلص من وحل السياسة وما قرب، أن تغيير الأشخاص سيغير الأمة، وأن الانقلابات العسكرية بالقوة المسلحة سبيل الرشاد.. سواء من الداخل أو الخارج..
وقصة العراق الحالية نموذج للمرض الصدامي، فقد ولى صدام غير مأسوف عليه ، فخرج بدل صدام ألف صدام.
وهو يذكرني بالجراحات التي نجريها لاستصال السرطان، مع وجود الانتشارات (Metastasis)؛ فالجراحة مع وجود الانتشارات، لاتلغي السرطان بل تعمق وجوده.
وهو ما يحصل في العراق، الذي بدأت معالجته كما يحصل مع المريض الذي تخلص من سرطان معدة بالجراحة، والانتشارات قائمة في الرئة والكبد والنخاع الشوكي..
وأمثلة من الطب ونقلها إلى علم الاجتماع لاتخلو من حكمة وطرافة..
والفرق بين السرطان والالتهاب كبير، فالعراق اجتمع عليه السرطان البعثي والالتهاب الأمريكي، والثاني أسهل، فالالتهاب واضح ومؤلم ومعالجته سهلة، والسرطان خفي غير مؤلم ومعالجته معقدة إن لم تكن مستحيلة..
فهذا هو الفرق بين السرطان البعثي الداخلي والالتهاب الأمريكي الاستعماري الخارجي..
ومن يفكر في تغيير الأوضاع في سوريا بالقوة، لم يستفد مما حصل بالعراق ..
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون..
والنظام البعثي السوري هو مثل المعلبات الفاسدة التي انتهت صلاحيتها، وهي تذكر بموت سليمان، فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين؟؟
متى ستأتي دابة الأرض؟؟
ومن هي دابة الأرض؟؟
وكيف سيكون سقوط الجثة الميتة البعثية؟؟
هذا ما سيفضحه الزمن وقد يطول؟
وعلينا أن لانستعجل فالعبرة ليست في تغيير الأمور بل البديل..
وعندما كان قوم موسى يشكون العذاب وأن الأوضاع قبل موسى وبعده لم تتغير، كان جوابه لهم: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون..
وفي يوم النكبة 8 آذار الموعد مع الانقلاب المشئوم في سوريا احتشد الناس من المعارضة للمطالبة برفع قانون الطواريْ فسلط النظام عليهم الرعاع والهمج، ماذكر بهجوم صبيان الطائف على الرسول ص حتى أدموا عقبيه الشريفتين، ولكن المؤشر القوي أن النظام لم يستطع فتح النار على الناس كما لم يعتقل أحدا، وهو في عمومه جيد للخروج من الأزمة الطاحنة سلميا، وبشيء من العراك الخفيف والكدمات والجروح، وليس بقتل عشرات الألاف في تدمر.. وهذا قانون التاريخ في التطور نحو الأفضل..
ودعنا نتفاءل أن مظاهرة عارمة بعد عدة سنوات سوف تكنس النظام إلى ملفات البلى في زوايا الذاكرة التاريخية المؤلمة، مثل امرأة مطلقة عانت عقودا من الحزن العميق في زواج هو طلاق صامت...
لقد تبدلت العقلية بحمد الله وكانت غير ذلك..
ويعطينا التاريخ شواهد فاقعة على هذا المنطق الأحمق غير المجدي الذي سقطت الأمة في قاع بئره في قصة يوسف جديدة، بدون سيارة تنقذه، وبدون أمل في النجاة، حتى جاء الحل من خلف أعمدة هرقل من بحر الظلمات؟! فعندما استأصل العباسيون الأمويين فلم يتركوا على ظهرها أموياً بمن فيهم الرضع، ونبشوا قبور الخلفاء وهي رميم فجلدوهم، وفرشوا السجاد على جثث المحتضرين وهم يأكلون ويطربون لم يتقدموا بحل المشكلة إلا بإلغاء كل الحلول؟ ولم يخرج من بينهم عمر بن عبد العزيز؛ بل خلفاء سمل العسكريون الأتراك عيونهم وتركوهم يموتون في حر الشمس، ليختم فصل مسرحيتهم بأفظع منظر عندما يخرج خليفة حاسر الرأس سمين يقابل جزار من حجم هولاكو يناشده الله في الحريم، وينهي حياته في كيس مربوط ترفسه أقدام المغول حتى الموت، وتدك بغداد إلى الأرض السابعة في ظل رعب مغولي لا يزال برج في مفاصلنا التاريخية، وعندما فتح السلطان العثماني القسطنطينية كان يدشن أعجب أمرين أحفلهما بالخطأ، فقتل أخاه الرضيع بفتوى دينية من شيخ الإسلام وبآية من القرآن وكانت عرفاً يجري؛ فقتل مراد الخامس خمسة من اخوته دفعة واحدة مع توليه السلطة؟ وكان أول ما يفعله الخليفة أن يقتل جميع إخوته حتى لا تكون (فتنة) و (الفتنة أشد من القتل) فيجب أن يستشري القتل في العائلة المالكة قبل الأمة ؟! في فهم منكوس ممسوخ لكلمة الله في السبع المثاني من القرآن العظيم، والخطأ الأخر بتحويل كنيسة (أياصوفيا) إلى مسجد متنكراً لعمل ابن الخطاب الذي رفض الصلاة في كنيسة القيامة حتى لا تكون مبرراً لتحويلها إلى مسجد.
يعتمد العنف من الناحية السيكولوجية كسر وإلغاء الأخر وطحن إرادة الخصم لتبقى في نهاية الصراع إرادة واحدة في الميدان، واللاعنف يحافظ على الطرفين ليخرجا بإرادة واحدة مشتركة.
يولد العنف ويستنبت من حوض (الكراهية) كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، مهما علت فروعها في السماء؛ بسبب ضعف الجذور، لتسقط في النهاية تحت ثقلها الخاص بعطالة ذاتية.
جذور العنف الكراهية وثمرتها الخوف والجريمة، وفي مذبحة مدرسة (ليتلتون) في ولاية كولورادو الأمريكية عرف عن الشاب الذي قتل 11 من زملاءه واثنين من المدرسين أنه كان يكره الناس، وعندما فجر رأس الزنجي بالطلقة فاندلق الدماغ ضحك مع رفيقه ساخراً معلقاً: ولكنه يحمل دماغاً أبيضاً!
لنحلل المشكلة أكثر هل إذا حطمنا الآخر- والحرب تعتبر التجلي الأعظم لظاهرة العنف- هل نحل المشكلة أو نتقدم باتجاه الحل؟
في الواقع إن الغالب والمغلوب يخرجان في نهاية المعركة باختلال نفسي مرضي غير سوي يتطلب آليات موازنة جديدة بفعل قوانين طبيعية بحتة.
يخرج الغالب بشعورين: متعة (جانكيزخان) العظمى المريضة بالتحطيم الأعظم للخصم، مع الخوف من انتقام المهزوم جنباً إلى جنب، فعندما سأل (جنكيزخان) أحد أدوات إجرامه المدعو (بو أورشو) كما جاء في كتاب (رينيه غروسيه) عن قاهر العالم، ما هي أعظم فرحة ينعم بها الإنسان في حياته؟ أجاب: أن تذهب للصيد في يوم ربيع يعلو معصمك باز معلم وأنت ممتط ظهر جواد مطهم والطريدة تسقط أمامك!! أجاب الجبار جنكيزخان: (كلا يا صديقي بل هي أن تنزل الهزيمة بأعدائك وتسوقهم أمامك كالقطيع يذرف ذووهم الدمع عليهم جزافاً وأن تركب خيولهم وتسحق بناتهم وزوجاتهم؟!)
ولكن جدلية المغلوب تفرض عليه أن يستعد للمعركة المقبلة لاستعادة توازنه النفسي بأدوات أشد ضراوة وأمضى، وكما يقول المؤرخ توينبي أن وتيرة الحرب في التاريخ كانت على شكل جولات كل جرعة منها تلاها ما هو أشد هولاً وأعظم نكرا، حتى وصل الإنسان إلى امتلاك سقف القوة بالسلاح النووي وهذا الحديث سنرجع له لاحقاً.
العنف والعنف المضاد حلقة معيبة ليس لها نهاية وهي كالنار التي تأكل بعضها بعضاً، والسلام شجرة مباركة تؤتي أوكلها كل حين بأذن ربها جذورها الحب وثمرتها الأمن فلا أعظم من (أمن) السلام وهو ما عبر عن إبراهيم ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون).
- آخر تحديث :
التعليقات