طرح الأستاذ جودت سعيد عام 1965 كتاباً إلى السوق بعنوان quot;مذهب ابن آدم الأولquot; يهدف فيه إلى (الإعلان وليس الإقناع) فاتهمه الكثير أنه مفسد للفكر الإسلامي أو أنه عميل للسلطة؛ لأنه رأى أن تغير الواقع الاجتماعي لا يتم بالعنف والاغتيالات، وقتل الحكام، وتدبير الانقلابات العسكرية، وأن الوضع (اللاشرعي) لا يزال بـ (اللاشرعية)، ولا يقضي على الخوارج بخوارج جدد، بل بالتزام اللاعنف ومن طرف واحد، كما فعل ابن آدم الأول: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين)...
ضحك الكثيرون من جودت سعيد واعتبروه في أحسن الأحوال ساذجاً مغفلا، ووصفه أحدهم أنه لا يزيد عن (درويش) ينقصه الوعي، ولكن الأمة لو انتبهت إلى هذا الفكر الإختراقي المبكر السابق لأوانه لحقنت الكثير من الدماء؟!
وهذا يشي وبسخرية معنى أن فرداً يوزن أحيانا بعقله ما هو أثقل من حماس قبيلة!!
وهوجم أخيرا بكتاب كامل وصف تحت عنوان (النزعة المادية) في الإسلام بأنه (غاندوي ماسوني معتزلي باطني جهمي قدري دارويني يدعو إلى الزندقة ولإلحاد).
وأكرمني الكاتب بأن أضافني إلى قائمته التكفيرية فوصف (خالص جلبي) بأنه أعمى الله قلبه (كذا؟) ولماذا ؟؟ لأنني شبهت الشيوعيين بآية قرآنية في اللحظات الصعبة، عندما حوصر البلاشفة الحمر بطوق عسكري آسر من الروس البيض؛ بأنهم عانوا لحظات نفسية رهيبة (عندما جاءوهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا)، كما يصف القرآن الصحابة في حصار الخندق، وهي في تقديري مقارنة نفسية لكل مجموعة بشرية تطوق حتى الخناق.
في قناعتي أن القانون الإنساني لا علاقة له بشيعة وسنة، وشيوعيين ومسلمين، بل به ناظمه الخاص، فالثورة الإيرانية (اللاعنفية) لم يفهمها المسلمون حتى اليوم، ويعتبرونها في أحسن الحالات حالة نادرة (خوارقية)، ولكنها في حقيقتها لا تزيد عن سنة الله في خلقه.
كذلك كان نجاح الشيوعيين، أو نجاح (ماوتسي تونج) في مسيرته الكبرى حينما خسر كل جيشه في رحلة على الأقدام، لمسافة عشرة آلاف ميل، يحصدون فيها من الأعداء على جانبي الطريق، ليبقى منهم في النهاية أربعة آلاف، يبني بهم زعيمهم في الشمال جمهورية صغيرة، كانت خميرة الصين الحديثة.
وهي تذكر بقصة طالوت وجالوت وداوود من القرآن الكريم. حينما لم يبق من الأكثرية إلا قلة القلة، وهؤلاء كتب الله على يديهم النصر المبين، فهوموهم بإذن الله.
العنف لايحرر الانسان؛ بل يورطه في مصيدة عبادة القوة، وأخطر مرض يصاب به المجتمع هو تشققه الى طبقات، عندما يتحول الى شريحة ضيقة من المستكبرين، وقاعدة واسعة من المستضعَفين.
وكل من المستكبرين والمستضعفين هما في الحقيقة من طينة ثقافية واحدة، كما في الفيلم بين الأصلي الأسود والمحمض الملون، فكل صوره الملونة الزاهية تستخرج من شريط أسود أصلي.
بكلمة ثانية مستنقع المستضعفين هو الوسط الملائم لولادة بعوض المستكبرين. وبمصطلحات علم النفس فكل سادي هو مازوخي وبالعكس.
وكل مستكبِر هو مستضعَف في أعماقه.
وكل مستضعَف هو (كمونياً) مشروع جاهز للاستكبار، ينتظر شروط بروزه وولادته .
يظهر هذا واضحاً في علاقة الرجل بالمرأة، والضابط الكبير بالصغير بفارق نجمة على الكتف، أو في علاقة الشرطي بسائق السيارة.
وأعجب ما في الصورة أنه لو قلب طرفي العلاقة بتغيير البدلة والوظيفة والشخص تكرر المنظر البئيس مع اختلاف الأشخاص والأسماء، فلا يلعن أحد حاكما، لأنه سيلعن نفسه في النهاية، ومنه حرم الشرع اللعن والسب والقذف والللمز والسخرية والتجسس والتنابذ بالألقاب.
مهمة الأنبياء كانت تبني اللاعنف، بكسر رافعة القوة، وتحرير الانسان من العلاقات المريضة، وبناء المجتمع التوحيدي الديموقراطي، والتخلص من طبقة أصحاب الامتيازات، والتمتع بكلمة السواء، التي هي أصل الرياضيات والفيزياء (تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم).
وهي الشفاء من المرض الفرعوني (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا).
إن فرعون ليس شخصاً تاريخياً مثل (بيبي) الثاني بل هي مجموعة صفات يمكن أن يقع في شراكها أي حاكم بدون فرامل معارضة.
لاغرابة أن نزلت سورة كاملة باسم رجل (مؤمن) يعترض