من حسنات الجلسة الأخيرة للحوار اللبناني يوم الأثنين الماضي، أن النائب ميشال عون لم يتكلم بعد الجلسة وذلك على غير عادته. لم ينبس النائب اللبناني الذي يرئس كتلة تضم واحدا ً وعشرين عضواً ببنت شفة أمام الصحافيين تاركاً وجهاً بشعا آخرً من بين أتباعه يتحدث عن الأوضاع في محاولة واضحة للظهور على شاشات التلفزيون ليس ألاّ.
ليس مهماً أن يتحدث النائب عون أو لا يتحدّث، خصوصاً أن ليس لديه ما يقوله سوى كلام فارغ، كلام يحاول عبره النيل من زعماء آخرين يصل بالكاد الى خصرهم أن من ناحية أستيعاب الأوضاع السياسية أومن ناحية نظافة الكف التي يحاول المتاجرة بها ناسياً أن الناس تعرف جيداً أن quot; الجنرالquot; ليس بريئاً الى الحد الذي يتصوره أنصاره من كلّ ما له علاقة بالمادة... أو ما شابه ذلك.
لا حاجة الى المزايدات في هذه المرحلة. في النهاية، لا أسرار في لبنان. الكلّ يعرف الكلّ والباقي تفاصيل. والكلّ يعرف أن النائب الأستاذ ميشال عون فقد أعصابه لأنّه فقد أي أمل في الوصول الى الرئاسة بعدما تبين أنه غير صالح لذلك وأن تجربة الأعوام 1988 و1989 و1990 يمكن أن تتكرر فيهاجر من لبنان قسم جديد من اللبنانيين خصوصاً من المسيحيين. سيهاجر هذه المرة أولئك الذين فشل quot;الجنرالquot; في تهجيرهم في المرة الماضية عندما تمسّك بالبقاء في قصر بعبدا على الرغم من أنتخاب رئيس جديد للجمهورية وعلى الرغم من أنه كان مجرد رئيس موقت للحكومة مهمته محصورة في تسيير شؤون الدولة في أنتظار أنتخاب خلف للرئيس أمين الجميّل. أنه الرئيس ورجل الدولة الحقيقي الذي فضّل الخروج من القصر بمجرّد أنتهاء ولايته مؤكّداً أنه ملتزم فعلاً القسم الذي أدّاه لدى أنتخابه رئيساً.
هناك في النهاية رجال يحترمون كلمتهم. ويحترمون خصوصاً القسم الذي يؤدونه. والمؤسف أن ميشال عون ليس من هؤلاء الرجال أذ يعتقد أن في أستطاعته الذهاب بعيداً في تحقيق طموحاته الرئاسية متّكلاً على جهل المسيحيين الذين يصرّ قسم لا بأس به على السير حسب ما تمليه عليه الغرائز ولا شيء آخر غير الغرائز رافضاً الأستفادة من تجارب الماضي ومن المحن التي مرّ بها لبنان.
من حسن حظّ لبنان أن قسماً آخر من اللبنانيين يبدو حالياً على أستعداد للقيام بعملية نقد للذات تأخذ في الأعتبار أن المسيحيين لم يتركوا خطأ ألاّ وارتكبوه في السنوات الأربعين الأخيرة بما في ذلك الدخول في مواجهة مع الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان من دون غطاء أسلامي، أو على الأقل من دون تفاهم مع المسلمين في شأن هذه القضية الخطيرة التي وضعت البلد ومستقبله على كفّ عفريت. لا يمكن في أي شكل تبرير الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان الذي يضرّ باللبنانيين والفلسطينيين في آن، لكن هذه القضية لا يمكن أن تعالج الاّ عبر حوار لبناني في العمق في كلّ الظروف والأحوال... وهذا ما لم تفهمه معظم القيادات المسيحية عشية أندلاع الحرب الأهلية في أبريل- نيسان من العام 1975 .
المؤسف الآن أن ما لم يفهمه رجل من الماضي أسمه ميشال عون ، هو أن الوضع في لبنان تغيّر جذرياً، خصوصاً منذ أستشهاد رفيق الحريري الذي دفع دمه ثمناً لأستعادة لبنان أستقلاله. ما لم يفهمه من يعتبر نفسه زعيماً للمسيحيين في لبنان أن المسلمين مع المسيحيين الواعين هم الذين أخرجوا القوات السورية من لبنان وأن المسلمين يشكّلون مع القيادات المسيحية الواعية العمود الفقري لأنتفاضة الأستقلال. ما لم يفهمه أن لعب دور الأداة السورية لن يوصله الى قصر بعبدا وأن التحالف الذي أقامه مع quot;حزب اللهquot; مجرد مناورة تستهدف التلاعب به وأستخدامه في عملية لا هدف لها سوى الحؤول دون وجود أكثرية الثلثين في مجلس النوّاب لأسقاط رمز النظام الأمني المشترك ورمز الوصاية على البلد الذي أسمه أميل لحّود.
لا شكّ أن الأستاذ عون يحتاج الى طبيب نفساني. لكنّ أكثر ما يحتاجه هو الى وقفة مع الذات والتفكير مليّاً في ما أذا كان في أستطاعته خدمة بلده بدل الأكتفاء بالحقد على رفيق الحريري وعلى المسيحيين الذين يفهمون طبيعة البلد والمنطقة. لقد حوّل quot;الجنرالquot; نفسه مجرّد أداة أخرى تشبه تلك الأداة التي تنتمي الى الطائفة الدرزية الكريمة، وهي من النوع الذي يخجل من يحترم نفسه لفظ أسمها أو كتابته مثلما يخجل من ذكر أسماء معظم أولئك الذين ينتمون الى الكتلة النيابية لعون . عيب على quot;الجنرالquot; أن يضع نفسه في مستوى أداة لدى الأجهزة السورية، فهو قادر على أن يستعيد بعضاً من أعتباره وأن ينهي حياته معززاً مكرّماً. يكفي من أجل ذلك أن يعتذر من اللبنانيين عن أدخال الجيش السوري الى قصر بعبدا ووزارة الدفاع وعن تسببه بطريقة أو بأخرى في تسهيل عملية أغتيال الرئيس رينيه معوّض في بيروت في الثاني والعشرين من تشرين الثاني -نوفمبر من العام 1989. وفي حال لم يكن قادراً على ذلك، يستطيع الأكتفاء بالتراجع عن متابعة تغطيته لدور النظام الأمني السوري- اللبناني في أغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما ثم الزميل الحبيب سمير قصير والمناضل العربي جورج حاوي والأخ والحبيب جبران تويني. هل هذه نهاية ميشسال عون التي تختصر بلعب دور القادر على تغطية جرائم ترتكب في حقّ أحسن اللبنانيين من أجل تحقيق حلمه المستحيل القاضي بالوصول الى قصر بعبدا... هل تستأهل الرئاسة كلّ هذا الذلّ والخيانات؟
لم يجلب ميشال عون للبنان واللبنانيين سوى الويلات. وعد بتحرير لبنان في العام 1989، فكانت النتيجة أن حرّره من اللبنانيين الذين هاجروا بالألوف ومعظم هؤلاء من المسيحيين الذين لم يستوعب قسم كبير منهم ما حدث. والمؤسف أن بعضهم لا يزال غير قادر على أستيعاب الخطر الذي يشكّله الرجل، الذي لا يستطيع ضبط لسانه وتصرّفاته الهوجاء، على بلده وأهل بلده.
هناك خدمة وحيدة في أستطاعة ميشال عون تأديتها لمواطنيه. عليه أن يستوعب أوّلاً أنه غيرمؤهل لموقع رئيس للجمهورية وأنه يستحيل عليه الوصول الى بعبدا. وهذا الواقع، الذي يحول دون وصول عون الى الرئاسة، يشكّل في حدّ ذاته أحد أهم الأنجازات التي تحققت في لبنان في الأشهر الأخيرة. أن هذا الوضع يعتبر من دون شكّ مؤلماً لشخص لا يدرك أنه يستحيل عليه أن يصبح رئيساً، لكنه يجب الاّ يمنعquot;الجنرالquot; من السعي الى أن يكون مفيداً ولو لمرّة واحدة. كلّ ما عليه عمله، في ضوء عدم أمتلاكه القدرة على فهم ما يعنيه مشروع الأعمار الذي نفّذه رفيق الحريري أو على الدخول في حوار مع وليد جنبلاط أو مع زعماء مسيحيين لعبوا دوراً مهمّاً في أنتفاضة الأستقلال، هو المساهمة في أنتخاب رئيس جديد للجمهورية. ليس سرّاً أن مثل هذا الرئيس يجب أن يكون رجلاً هادئاً ومثقفاً ومعتدلاً أوّلاً وأن يمتلك علاقات عربية ودولية تصب في خدمة لبنان وأن يكون نظيف الكف ولم تتلوّث يداه يوماً بالدم وأن يكون قادراً على الدخول في حوار مع الجميع في لبنان وخارج لبنان. يصعب على ميشال عون الأقرار بأنه لا يمتلك أي صفة من هذه الصفات وأن من يمتلكها شخص آخر معروف أسمه وعنوانه. هل في أستطاعة quot;الجنرالquot; أن يقدّم ولو خدمة واحدة للبنانيين بعدما خذلهم المرّة تلو الأخرى؟