اللعبة السياسية أصولها وقواعدها (2)

يقول السياسيون:
(لا عداء دائم ولا صداقة دائمة في السياسة بل مصلحة دائمة).
هذه قاعدة أو أصل من أصول اللعبة السياسية كما يقول المحللون السياسيون، بل أصل يتداول الناس في محافلهم العامة والخاصة، فالسياسة في الأساس صراع من أجل المصالح، والمصالح وحسب.
ينطلق المحللون والمتابعون السياسيون في ترسيخ أو إمضاء هذا الأصل من ربما من الواقع،ومن دراسة الطبيعة البشرية في كثير من الأحيان، ومن تشريح التاريخ السياسي للأمم الدول والمجتمعات والأحزاب، ومهما يكن أصبحت هذه المعادلة شائعة على الألسن، سارية مسرى المثل.
ليس من شك ليس هناك صداقة دائمة، ولا عداء دائم في السياسة بل هناك مصلحة، فأن أهم قانون يحكم الاجتماع البشري هو الصراع، صراع من أجل القوة، ومن أجل المصلحة، ولكن أعتقد أن المعادلة المذكورة ينبغي أن تصاغ بطريقة أخرى.
في تصوري لا عداء مطلق ولا صداقة مطلقة في السياسة، هذه الصياغة ربما تكون أشمل من سابقتها، فأن عداء مؤقتا بين روسيا وأمريكا على بعض مشاكل ومجريات وحوادث العالم، في هذه المنطقة أو تلك، تجاه هذه القضية أو تلك في خصوص هذه الدولة أو تلك، في صدد هذه الحرب أو تلك... كل هذا لا ينفي أن يكون هناك توافقا مشتركا أو تقاطعا واضحا بين أمريكا وروسيا إزاء الكثير من القضايا الدولية والعالمية، بحيث تتحكم المصلحة المشتركة في توزيع المهمات، و أخذ القرارات، وإرساء المواقف، وفي كلا الحالتين تكون المصلحة هي سيدة الموقف، هي التي تصمم، هي التي ترسم، هي التي تقرر، هي التي توجه.
استكمالا لما سبق أتصور أنه ليس هناك مصلحة بل مصالح، مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، تختلف من زمن لأخر، ومن مكان لآخر، ومن حادث لأخر، فإن هذه الصياغة من شأنها تنقذ عملية التحليل السياسي من خطر التعامل الضيق مع حركة السياسة العالمية.
اللعبة السياسية صداقة وعداء في وقت واحد، صداقة هنا في ضوء مصلحة معينة، وعداء هناك في ضوء مصلحة معينة، لقاء هنا بسبب مصلحة مسماة وفراق هناك بسبب مصلحة مسماة، توافق هنا بضغط نم مصلحة مشخصة وشجار هناك بضغط من مصلحة مشخصة، تبادل خبرات سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية هنا لضرورات بركماتية دقيقة، وتمويه وتضليل سياسي وعسكري وأمني ومخابراتي هناك لضرورات بركماتية دقيقة، ليس هناك شمول، ليس هناك كليات، ليس هناك تعميم موقف، ليس هناك قطيعة مطلقة، عالم التناقضات المدهش، عالم المفارقات التي لا تخضع لقانون سوي قانون واحد كما تقول المعادلة الكبيرة، أي قانون المصالح.
اللعبة السياسية في ضوء هذا الأصل تنجو من مرض المطلق، ولا تخضع لقوانين المنطق الرياضي الصارم، وبالتالي، ليس من الحكمة بناء موقف سياسي على خلفية خلاف أو توافق بين دولة و أخرى على أساس مطلق، وبلغة نافية تماما أو مُثبته تماما. فأن اللعبة السياسية هنا كما هي لعبة العلاقات بين التجار الكبار، فقد يتفق تاجر وآخر على صفقة تجارية بشكل كامل، يتبادلان الأسرار الخاصة بهذه الصفقة، ويمنعان تسرب أخبارها إلى الآخرين، ويحرصان أن تكون صفقة ثنائية صرفة، فيما في يتآمر أحدهما على الآخر بالتعاون والمشاركة مع ثالث على صفقة أخرى !!!
أن الصراع الأمريكي الفرنسي في خصوص مستقبل العراق، لا يمنع ولن يمنع توافق أمريكي فرنسي في الساحة اللبنانية، تجاه مشروع حزب الله مثلا. وهكذا بين روسيا وأمريكا، بل حتى بين بريطانيا وأمريكا اللذين تجمعهما من المصالح والتوافق ما لم نجد له نموذجا في العالم كله بين دولتين كبيرتين أو دولتين صغيرتين كما هو معلوم.
أن قولنا لا صداقة دائمة ولا عداء دائم في السياسة ينبغي أن يكون مفردة ضمن معادلة أوسع وأنشط، تلك هي التي تقول: لا صداقة مطلقة ولا عداء مطلق في السياسة، كي نشمل الزمان والمكان وكل المقولات التي تتصل بتحليل العالم، وتشريح التاريخ.
هذا الأصل ينحي الأديولجيا إلى حد بعيد في اعتمادها لدى المحللين السياسيين لتحديد وتعليم التحولات في حركة السياسة العالمية، لا أقول يقضي عليه وينسفه من الأساس، ولكن ينحيه إلى حد مؤثر، يقلل من مساحته الفاعلة في تحديد مسارات الحركة السياسية في العالم، إلاّ في حدود ما يصب في المصلحة في النتيجة الأخيرة.
فهل سوف تعطي الجمهورية الإسلامية الإيرانية ظهرها لحزب الله اللبناني فيما تقتضي مصالحها ذلك؟
وهل سوف تتخلى أمريكا عن حلفائها في العراق فيما تقتضي مصالحها ذلك؟
وهل سوف تقيم أمريكا تحالفاتها في سوريا مع قوى هي في الأساس ضد وعلى النقيض من القوى التي تحالفت معها أمريكا في العراق مثلا؟
ذلك أنه ليس هناك عداء مطلق ولا صداقة مطلقة في السياسة بل هناك مصالح مطلقة؟
إذن عملية التحليل السياسي ينبغي أن تبدأ أساسا من تحديد المصالح قبل كل شي.
هذا هو منطق الأصل المذكور في اللعبة السياسية.

الحلقة الأولى