... جثة عبد الحليم حافظ!
لم تدهشنى قصة عدم تحلل جثة عبد الحليم حافظ ولاحكاية إكتشاف وجود إسم سيدنا محمد على جبل أحد بواسطة الأقمار الصناعية ولا دراما مشاهدة علماء الجيولوجيا لعذاب القبر الذى يشاهده أبناءنا فى المدارس على سى دى!، وذلك لسبب بسيط وهو أنها ليست أول الخرافات المصرية والعربية ولن تكون آخرها، ف الخرافة فى مصر هى بنت شرعية للعجز وقلة الحيلة، وعندما يفشل مجتمع فى تفسير ظواهر التغير وعوامل الخلل وquot;اللخبطةquot; فيه فإن أبناءه يدقون بشدة على أبواب الخرافة والدجل لعلهم يجدون السبيل والحل والضوء فى نهاية النفق المعتم، ولأننا بلد يزدرى العلم ويحتقر الإحصائيات ويمقت التحليل ويبالغ فى التواكل والفهلوة وقول ياباسط، فقد أعطينا العقل أجازة مفتوحة وأقمنا له سرادقاً بإتساع حدود هذا الوطن لنستقبل العزاء فيه، وأشد الخرافات تأثيراً هى الخرافة التى ترتدى ثوباً دينياً وتكتسى بالمقدس وتقدم رشوة للبسطاء من خلال نصوص التراث، وكانت أول الخرافات التى قابلتنى وأنا طالب فى كلية الطب خرافة quot;غابة ألمانياquot; وهى اللوحة التى إكتسحت مصر حينذاك بداية من محلات عصير القصب حتى مكاتب رؤساء مجالس الإدارة، واللوحة تصور غابة ألمانية تشابك فيها الشجر على هيئة لفظ الجلالة وكتب أسفلها أن السلطات الألمانية فرضت كردوناً أمنياً على هذه الغابة حتى لايتم تصويرها خوفاً على أبناء أوروبا من الدخول فى الإسلام، وبالطبع بعد أن كسبت دار النشر الإسلامية الملايين من خلال هذهquot; النصبايةquot; تم إكتشاف الملعوب وتبين أن اللوحة رسمها طبيب من المنصورة أعتقد أن إسمه الخضرى وقد عوقب بعد ذلك من المتطرفين على إعترافه بأن حرقوا شقته وحولوها إلى رماد!، والشئ بالشئ يذكر فقد أخذ الفن التشكيلى يشكل خرافة أخرى وهى خرافة البنت التى تحولت إلى مسخ بشرى بعد سماعها للديسكو ومزامير الشيطان ورفضها سماع القرآن فضربتها أمها بالمصحف فتحولت إلى مايشبه المسخ الذى إحتل شكله المخيف صفحات الجرائد الأولى ومانشيتاتها وإتضح بعد ذلك أنه نحت حديث لفنانة أجنبية!، وتوالت بعد الغابة الألمانية قائمة الخرافات والتخريفات التى تضخمت ككرة الثلج بتناسب طردى مع تفشى الجهل والفقر والمرض فى الجسد والعقل المصرى وساعدها على ذلك حمى وهستيريا الفتاوى الدينية التى بيعت بضاعتها على الهواء مباشرة من بوتيكات البرامج الدينية، وهذا غيض من فيض، فقد حكمت مرة إحدى المحاكم الإبتدائية لزوجة بتطليقها لأن زوجها يعاشر جنية أو عفريتة ومن الممكن أن تحمل منه هذه الجنية، ثم خرج علينا المطرب الذى أعشق صوته حتى الثمالة على الحجار فى أحد البرامج الفضائية ليحكى لنا عن مطاردة جنية له من أجل الزواج فهى تعشقه لحد الجنون!، وهناك إعتراف رائد الفضاء الذى صعد إلى سطح القمر فسمع الآذان هناك وبالطبع خر ساجداً وأعلن إسلامه ولايهم طبعاً أن نتعلم كيف صعد إلى القمر ولكن مايهم هو أنه سمع الآذان؟!، أما بركات الشيخ إبراهيم فى قرية طناح فحدث ولاحرج ويكفى أن تعرف أن أثرياء مصر يستشيرونه بألف دولار، والأغرب أن أحد وزراء الداخلية المبروكين المتدروشين كان يلجأ إلى بطانة هؤلاء الدراويش لمساعدته فى البحث الجنائى!، ومن البركات إلى تعطيل العربات التى تشتهر بها إحدى قرى مرسى مطروح التى يرجعون كثرة الحوادث عندها إلى أشباح البدو الذين إحترقوا فى حريق ضخم منذ أكثر من مائة عام، وإمتد سور الخرافة العظيم من القرية إلى المدينة، وزحف على كل الطبقات الإجتماعية ويؤكد ذلك الترويج الإعلامى لأحد المهندسين الذين يعالجون الأمراض بالأشكال الهندسية والذى تجمع الأمن المركزى حول بيته بعد إذاعة الحلقة بيوم لحمايته من الزحام الجماهيرى!.
كانت أكثر الخرافات تكراراً وتأثيراً هى ظهور لفظ الجلالة أو إسم سيدنا محمد على البطاطس والطماطم وأحياناً الزلط والقواقع، وكان غرض تكرارها وسر إكتساحها أنها دليل على قدرة الله، وكأن الله جل جلاله وعظمت قدرته ينتظر بطاطساية أو طماطماية لبيان إعجازه وقدرته، إن الرب العظيم المقدس لايحتاج إلى مثل هذه الرسائل العبيطة، إن رسائله وآيات قدرته تحيط بنا فى كل مكان وكل لحظة وإشاراته بداخلنا فى كل ثانية تنطق بجلال هندسته الكونية، وزادت نغمة الأسماء المطبوعة على الفواكه والخضروات بعد ضجة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول، حتى ظهرت قمة الكريشندو فى سيمفونية المطبوعات فى شجرة الصعيد المكتوب على أوراقها إسم النبى وبعدها العجل الصغير الذى خرج من رحم أمه البقرة مطبوعاً على رأسه نفس الحروف وهكذا إشتركت الثروة الحيوانية مع الثروة الزراعية فى صنع المعجزات والخرافات!، ومن ضمن الخرافات التى ساهمت فى إذكاء روح الفتنة الطائفية خرافة السبراى الذى يرش على أحجبة المسلمات فيرسم صلباناً، وبرغم أن كثيرين عن طريق التجربة أثبتوا أن نسيج الحجاب ولحمته وسداه ترسم هذه العلامات حين تنزل عليها نقطة حبر إلا أن الناس مازالت تصدق ذلك ولانعرف هل لأنهم عايزين يصدقوا أم لأن مناخهم الفاسد ساعد على نمو بذور الفتنة فى تربة الوطن؟.
إذا كنا قد تحدثنا عن خرافة عفريتة على الحجار ومقبرة عبد الحليم حافظ فلابد أن نتحدث عن خرافة أخرى مصدرها أهل الفن، وهى عن المصحف الذى لم يحترق فى شقة ليلى علوى برغم إحتراق الشقة بكاملها، وقد تحولت هذه الحادثة على يد بعض الأقلام الصحفية إلى كرامة ومعجزة، ولم يجرؤ أحد أن يناقش هذا على أنه مجرد صدفة، وأن عدم حدوثه أى إحتراق القرآن فى أى حادثة حريق لاينقص على الإطلاق من قدر وعظمة القرآن، فهذا الكتاب العظيم المقدس أفكاره هى المحفوظة وهى التى تحميه وليست الأوراق أو الحبر، ولكى نفهم ذلك لابد أن نعرف ماهى الحقيقة العلمية وماهى شروطها؟، ولابد أن نعرف أن من أهم شروطها أن تكون قابلة للتكرار فى أى مكان وأى زمان، فالماء يغلى عند درجة مائة فى اليابان وموزمبيق، وأيضاً فى الصيف وفى الشتاء وفى القرن الثانى والقرن العشرين، ولكى نطبق هذا على حادثة شقة ليلى علوى فلابد أن تقاوم صفحات القرآن المصنوعة من السيليلوز أى لهيب نار فى بلاد البوذيين أو تجمعات الصوفيين، وهذا للأسف الشديد لم ولن يحدث، وهذا ليس لعيب أو نقيصه فى القرآن لاسمح الله ولكن لأن قوانين الطبيعة تمشى على أى مادة ومنها الورق، وهذا يدل على أننا نقدس الأوراق لا الأفكار، ونحتفل بعدم إحتراق الورق فى نفس الوقت الذى نحرق فيه الأفكار القرآنية العظيمة ونخونها بل ونغتالها فى وضح النهار، وتمزيق القرآن حدث قديماً على يد الخليفة الأموى الفاسق الوليد الذى كان يرمى السهام على القرآن ويتحداه فى غرور قائلاً إذا ماجئت ربك يوم حشر فقل يارب خرقنى الوليد!، أستغفر الله وليطمئن الناس أن صفحات القرآن المطبوعة على الورق من الممكن أن تحترق ولكن أفكاره المطبوعة فى العقل والقلب إذا أخلصنا النية لن تحترق أبداً وهذا هو المهم، وأعتقد أن رفع المصاحف على أسنة الرماح فى التحكيم مابين على ومعاوية كانت حرقاً للقرآن الكريم بإقحامه فى الصراع السياسى بل كانت أخطر من الحرق بالنار.
ظهرت الوحدة الوطنية فقط فى الخرافة التى تسللت للمسيحى كما تسللت إلى المسلم، وكان ترويج حكاية شفاء حفيد المذيعة ونائبة مجلس الشعب فريدة الزمر من السرطان بوضع الإنجيل تحت رأسه خرافة أخرى، فالعلم له قوانينه والشفاء له وسائله والطب له أبوابه التى لابد أن تطرق، وهذا الربط الشرطى فى منتهى الخطورة لأنه إذا فشل الإنجيل فى شفاء طفل آخر فستمتد الشكوك إلى الكتاب نفسه وندخل فى متاهة لم يسع إليها الدين أو العلم على السواء، فنحن لسنا فى معركة مين اللى كتابه يشفى ويكسب، إننا فى نفس الخندق الذى لابد أن يحارب ويجتث الخرافة.
إذا كانت الحكايات عن الخرافة والدجل والشعوذة صادمة فالأرقام أكثر صدمة، فبعض الدراسات تقول أنه يوجد فى مصر دجال لكل مائة وعشرين مصرى وهو معدل مرعب، وهناك ثلاثمائة ألف شخص فى مصر يدعون علاج المرضى بتحضير الأرواح، وعدداً مثلهم يزعمون العلاج بالقرآن والكتاب المقدس، إضافة لوجود أكثر من ربع مليون دجال يمارسون أنشطة الشعوذة فى مصر، نحن لم نندهش من هذه الأرقام لأننا لم نندهش قبلها حين عرفنا أن زيارة أضرحة الأولياء أصبحت واجباً مقدساً لكبار القوم من الوزراء والسياسيين بل ورؤساء الجامعات!، وأن هناك مسئولين كباراً كانوا يحضرون روح زعيم سياسى لإستشارته وأخذ رأيه 000الخ، أى أننا ببساطة تبلدنا فى إستقبال مثل هذه الأمور لأنها صارت عادية بل ومحتفى بها لأنها دخلت فى النسيج الإجتماعى لمصر ملتصقة بكرات دمها الحمراء.
قد يقول قائل ويعنى إيه الضرر فى إنتشار شوية خرافات، إيه اللى مضايقك، مش الأمور ماشية وخلاص؟!، والمصيبة إن الأمور مش ماشية وخلاص ولكنها ساكنة إلى درجة التعفن، وأن إنتشار الخرافة يكرس الكسل العقلى فلايجهد الإنسان نفسه فى فهم الظواهر ويعود إلى سيرة إنسان الكهف الأولى حين كان يفسر العواصف على أنها صوت الإله، والنهر على أنه دموع الحبيبة 000الخ، فيستسهل إرجاع الظواهر الإجتماعية إلى أسباب غيبية علشان يريح دماغه كماحدث من الشيخ الشعراوى عندما فسر هزيمتنا فى 1967 بأنها عقاب من الله بسبب إبتعادنا عن طاعته، لدرجة أنه صلى لله شكراً بعد هذه الهزيمة لأننا لن نصبح شيوعيين والحمد لله، وبالطبع إبتعد عن التفسير العقلى السليم لأسباب الهزيمة من نقص تخطيط وعدم إستعداد ودكتاتورية وفساد فى قيادات الجيش 000الخ، ومن السهل أن تقول عن أى شئ عقاب من الله حتى تستريح وتركن إلى كسلك العقلى، كما يقول الأطباء المسلمون مثلاً عن سبب الإيدز، وذلك برغم أن البلهارسيا تنخر فى أكباد الفلاحين المصريين المسلمين الغلابة اللى مايعرفوش الحرام ومافيش زيهم فى الإيمان والطيبة، وبمثل هذه التفسيرات نختبئ وراء حصن أماننا الزائف وجهلنا المقيم، ونستريح عندما نقول أن الغرب كافر ومن المؤكد إن ربنا حيورينا فيهم يوم!، وأتساءل هل شعبنا معذور حقاً فى ذلك السلوك الذى يعوض به طناش الأحزاب وغياب السياسيين وقهر رجال الدين وهبر رجال الأعمال؟، ومن الممكن أن يرد البعض علينا بأنهم فى الغرب أيضاً يمارسون الدجل والخرافة، ولكن إذا كان البعض يفعل ذلك هناك فهو من باب الترف الذى لانتحمله نحن بظروفنا القاسية، والمأساة أن الخرافة عندنا لم تعد خرافة أفراد مثلهم وإنما أصبحت تياراً عاماً كاسحاً وعاصفاً يزلزل المجتمع من أساسه، فهل نفيق من الغيبوبة أم أن العقل عندنا كالزائدة الدودية تكون مفيدة فقط عند إزالتها بالجراحة!.
[email protected]
التعليقات