النزعة الإقصائية ما تزال هي الطاغية في الفكر والسياسة العربيين، وعندما يقرر طرف ما سواء كان متربعا على كرسي الحكم، أو في المعارضة، أن يقصي خصما ما، عمليا أو نظريا، فإنه لن يعجز أبدا عن اختلاق المبررات الإيديولوجية والسياسية الكافية لتبرير ذلك الاستئصال و الإفناء، لكن النتيجة كانت باستمرار مواصلة ذات التاريخ، القائم على quot;الغلبة والقهرquot;، والمتمسك بسيرة الأمة التي تجيء فتلعن أختها.
المشروع الديمقراطي العربي كما يجب أن يكون قطيعة مع واقع الطغيان والاستبداد الذي ميز طبيعة الحكم العربي الإسلامي قرونا، فإنه يجب أن يكون ndash; ولا يمكن أن يكون إلا كذلك- قطيعة مع الفكر والممارسة الإقصائيين، فالديمقراطية إن لم تطمئن جميع التيارات والأحزاب على حقها في الوجود والحركة السلمية، فإنها ستدفع أطرافا كثيرة إلى مناصبتها العداء والعمل جاهدة على عرقلة مسارها.
تقرير مركز السياسة الخارجية الأمريكي الأخير، الذي صدر موفى شهر مارس الماضي بعنوان quot; الديمقراطية، الإرهاب والشرق الأوسطquot;، خرج في رأيي بخلاصة جيدة تؤكد صحة الأفكار الأنفة، والتي تنصح الراغبين في دعم الديمقراطية في المنطقة العربية بإتاحة الفرصة أمام كافة التيارات والأحزاب والقوى السياسية للانخراط في العملية التعددية، وعدم استبعاد أو حرمان أي طرف ما دام هذا الطرف راغبا في الانخراط في هذه العملية، مهما كانت التقديرات الأولية غير إيجابية، أو تضمنت إشارات ظاهرية إلى أنها عدو للديمقراطية.
التعامل الأمثل مع الإسلاميين العرب كان الموضوع الرئيس للتقرير الأمريكي، وخلافا ربما لتقدير ورغبة العديد من الساسة والمثقفين الليبراليين والعلمانيين في العالم العربي، وبحسب الخبراء الأمريكيين الذين ساهموا في صياغة وتحرير التقرير، فإن الحركات الإسلامية ليست كلها من صنف واحد، على الأقل فيما يتعلق بالموقف من الديمقراطية، وأنه من الأفضل عدم تصنيف الإسلاميين جميعا في خانة أعداء الديمقراطية.
منطلقات أصحاب التقرير الأمريكي برأيي صبت في اتجاه كسر الثنائية التي تعمل بعض الأنظمة العربية على إبقاء الإدارة الأمريكية متبنية لها، والتي تؤكد على أن البديل الذي ستحمله رياح التغيير الديمقراطي في العالم العربي لن يكون سوى بديلا أصوليا قاتما، أكثر معاداة من أي طرف آخر للولايات المتحدة ومصالحها الضخمة في المنطقة، وأنه لا حل سوى غض الطرف على ممارسات هذه الأنظمة القمعية، خصوصا في ظل ضعف وهوان وعدم شعبية التيارات الليبرالية والعلمانية، التي شكلت البديل للأنظمة الديكتاتورية في مناطق أخرى من العالم استجد فيها تحول ديمقراطي.
وإذا كانت الأنظمة العربية تدافع عن مصالحها واستمرارها في الحكم عندما تبذل مساعيها حثيثة لتكريس هذه الرؤية الإقصائية على الصعيد الدولي، فإن التيارات الليبرالية والعلمانية في العالم العربي، ستكون مخطئة تماما إذا ما كان لديها أيضا قناعة مماثلة، تجعلها راضية بما تراه أهون الشرين، ملحة على التعامل بدورها على تعامل تعميمي خائف ويائس مع الظاهرة الإسلامية، مصغية في أعماقها إلى الاتجاه الراديكالي داخلها، الذي يصور الحركات الإسلامية في مجملها، حركات تقية غامضة تبطن غير ما تظهر، وغير مؤهلة أبدا للاندماج في السياق الديمقراطي التعددي.
لقد أثبتت تجارب الحكم في العالم العربي، أنه ليس ثمة أسهل سياسيا وإيديولوجيا من حل الإقصاء والاجتثاث، فهذا الحل يتطلب فقط عقلية أمنية مستعدة لممارسة سياسة الأرض المحروقة وتبرير كافة الجرائم والانتهاكات في حق خصم سياسي، غير أن هذا الحل هو في حقيقة الأمر حل مزيف وأناني لقضايا صعبة، تفلح أساليب البتر والكي في تأجيل النظر فيها، لكنها لا تفلح في إيجاد مخارج نهائية مفيدة لها، فإقصاء جبهة الإنقاذ في الجزائر عن الحكم سنة 1992 على سبيل المثال، جمد النظر في قضية الإسلاميين لفترة، لكنه لم يجد حلا حقيقيا للقضية، وكذلك الأمر بالنسبة لدول عربية أخرى اتبعت وما تزال أساليب مشابهة، لربما أفلحت أنظمتها في كسر شوكة الحركات الإسلامية لحقبة من الزمن، لكنها عجزت بلا ريب عن إنهاء الملف الإسلامي.
أن يملك المرء موقفا معاديا للدين ndash; وهذا حق لأي شخص-، لا يجب أن يعني استعداد ذلك المرء إلى إعلان الحرب على الدين، وأن يكون لدى المرء تحفظات واعتراضات كثيرة وجوهرية على تيار سياسي معين يتخذ من الدين مرجعية، لا يجب أن يعني موافقة ذلك المرء على الإيمان بأنه ليس ثمة حل غير شن حرب مقدسة على ذلك التيار، وتبرير جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد ترتكب بحقه.
وإذا ما استسلم العقل العربي الليبرالي والعلماني لهذه الرؤية الإقصائية وهذا النوع من التحليل السياسي، فإنه سيكون بذلك قد ساهم في تعميق المشكلة الإسلامية المطروحة بقوة، من خلال الدفع بأحد التيارات السياسية الكبرى إلى اليأس وإلى مزيد من العنف والتطرف، في حين سيكون الأجدى والأنفع تشجيع هذه التيارات على مزيد من النقد والتغيير والمراجعة، وعلى مزيد من الاندماج في نسق مشترك يقوم على الإيمان بفضائل الحرية والديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والتباري على أساس البرامج السياسية وخدمة المواطنين والمصالح العامة، بديلا عن المزايدات والتشكيك في النوايا وخطاب الإقصاء المتبادل.
لقد أثبتت تجارب كثيرة، آخرها ما وقع في فلسطين والعراق، وقبل ذلك في المغرب واليمن والكويت والأردن، أنه بمقدور الإسلاميين الانخراط في عملية سياسية تعددية وديمقراطية قائمة على التعايش بين مختلف التيارات، وبإمكان هذه التجارب أن تتعمم في مختلف البلدان العربية الأخرى، وأن يكون الإسلاميون من خلالها رافدا قويا من روافد التغيير الديمقراطي، وعاملا مساعدا على نجاح عمليات الإصلاح السياسي المرجوة، بعيدا عن سيناريوهات الانقلابات والمؤامرات والزلازل والبراكين التي يسعى البعض إلى تصويرها تخويفا للخارج والداخل على السواء من المشاركة في التغيير أو مساندته.
إنه ليس أسهل من العمل على اجتزاء العبارات وإخراجها من سياقاتها النصية واللعب بمفرداتها لإثبات الحجة على طرف ما وبيان فساد نيته وبرامجه، كما ليس أسهل من نعت الإسلاميين جميعا بأنهم مصاصو دماء متلهثون للسلطة كفرة بالحرية أعداء للإنسانية...إلخ، غير أن الأصعب هو الدفاع عن لغة التعايش وخطاب التشجيع على النقد والمراجعة وإعادة البناء والتأسيس لأوطان تسع جميع أبنائها على اختلاف تياراتهم ومشاربهم ورؤاهم، وشخصيا لا أملك تصور عالم عربي بدون إسلاميين أو قوميين أو يساريين أو ليبراليين، فإذا كان قدر العيش المشترك حتميا، فلماذا ندفع بتاريخنا في اتجاه مسار الإقصاء والإفناء والتصفيات الجسدية.
لقد وصلت حركة حماس إلى السلطة، ولا أحسب أن حماس قد وضعت لنفسها برنامجا سريا يقضي بإفناء التيارات الوطنية والعلمانية والليبرالية والقومية والمسيحية الأخرى، كما وصل الإسلاميون في العراق إلى السلطة، ولا أحسب أن لديهم برنامجا سياسيا يهدف إلى إقامة دولة ثيوقراطية تعلق على المشانق رؤوس الشيوعيين أو الأكراد أو الآشوريين مثلما فعل من قبل صدام والبكر و عارف.
و تقديري أن الإسلاميين قد يصلون غدا، في المغرب أو موريتانيا أو مصر أو سوريا أو تونس إلى السلطة، لكنهم لن يسعوا أبدا إلى إقامة دولة دينية توتاليتارية قائمة على حزب واحد وتيار واحد وبرنامج واحد، وليس هذا الاعتقاد من باب السذاجة الفكرية أو السياسية أو الثقة المفرطة بالنوايا الحسنة، إنما تقدير موضوعي ينطلق من قناعة بأن تاريخ الدول الدينية والشمولية قد ولى، وبأنه لن يكون أمام الإسلاميين إلا طريق واحد لخدمة مرجعيتهم الفكرية والدينية والسياسية، وهو طريق الاندماج في المشروع الديمقراطي، تماما كما اقتنع المؤمنون المسيحيون واليهود والبوذيون وسائر أصحاب المرجعيات الروحية، بأنه ليس ثمة أفضل لهم لخدمة إيمانهم من دولة محايدة تضمن لهم ولغيرهم العيش بحرية وأمان وتسمح لهم ولغيرهم بحق الحركة والتعبير عن آرائهم والدعوة السلمية إلى أفكارهم.
إنني أدرك أن الإسلاميين محل كره ومقت شديد لدى الكثير من أبناء التيارات الفكرية والسياسية العربية الأخرى، لكن المشاعر لا يجب أن تكون هي المحدد في بناء المستقبل، بل العقل والقيم الإنسانية النبيلة هي التي يجب أن تحكم، والرأي عندي أن تشجيع الإسلاميين العرب لكي يكرروا نموذج أردوغان، خير من دفعهم إلى أن يكونوا على غرار طالبان..إن الديمقراطية مشروع تعايش وتسامح بين التيارات والأحزاب والأديان والمذاهب والطوائف، لا مشروع إقصاء وتصفية وإفناء.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي ndash; لاهاي.