ثمة حاجة في هذه المرحلة الى الأعتراف بحيوية المجتمع المسيحي في لبنان بعد سنة من تحقيق الأنسحاب العسكري السوري من البلد. أنه في النهاية المجتمع الذي فيه جانب من التعددية التي تعكس الى حدّ كبير القدرة على التطوّر والأعتراف بالأخطاء التي أرتكبت بهدف واضح يتمثّل في المساهمة في تطوير المجتمع اللبناني ككلٍّ والأنصهار فيه. وكان آخر دليل على أستعادة المجتمع المسيحي حيويته وقوفه في وجه المحاولات التي يبذلها ميشال عون للوصول الى الرئاسة عبر المساعدة في الأنقلاب على أتفاق الطائف من جهة وتعهده أكمال المهمة التي اداها وما يزال الرئيس الحالي يؤديها من جهة أخرى. أنها مهمة تتلخص بأبقاء لبنان quot;ساحةquot; للصراعات الأقليمية لا أكثر ولا أقلّ بما يخدم أسرائيل أوّلاً، أسرائيل المتضررة من أي دور للبنان على الصعيد الأقليمي ومن أي دور للبنانيين على صعيد تقديم نموذج لدولة حضارية لا أحزاب مذهبية أو طائفية فيها، بل فيها عيش مشترك ومصالح مشتركة بين اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق.
ليس صحيحاً أن المجتمع المسيحي ألتف حول النائب ميشال عون على الرغم من النتائج الباهرة التي حقّقها في الأنتخابات الأخيرة الصيف الماضي في مناطق معينة. ما تحقق من نتائج لمصلحة عون كان تتمة لما يمكن أعتباره سلسلة من الأخطاء أرتكبت عن قصد في أحيان كثيرة أدّت الى جعل quot;الجنرالquot; يستفيد من ظروف معيّنة. على رأس هذه الظروف عدم أدراك قوى 14 آذار أن ألأستاذ عون أستُحضر الى لبنان بموجب أجندة معينة معدّة سلفاً كي ينفّذ المطلوب منه في وقت أُبقي سمير جعجع في السجن عن سابق تصوّر وتصميم. والمطلوب من عون وقتذاك، أن يكون الأحتياط الأستراتيجي للنظام الأمني السوري- اللبناني الذي كان عليه القتال بشراسة من أجل المحافظة على مواقعه جراء الجريمة التي أرتكبها أو ساهم في تغطيتها والمتمثّلة بأغتيال رفيق الحريري.
لم يحسب النظام الأمني السوري- اللبناني أن اغتيال رفيق الحريري سيؤدي الى ما أدّى اليه من نتائج. كان يعتقد أن المسألة مسألة أسبوع أو أكثر بقليل وأن كلّ شيء سينتهي مع أعادة فتح الطريق التي مرّ بها موكب الحريري قبل أغتياله. ولذلك كان رئيس الجمهورية مستعجلاً في أعادة فتح الطريق كي يقول أن الجريمة مرّت مثلها مثل الجرائم الأخرى التي شهدها لبنان. كان بعض القريبين من الرئاسة ومن النظام الأمني السوري-اللبناني يقولون: هل رفيق الحريري أهمّ من كمال جنبلاط؟ هل هو أهم من بشير الجميّل أو المفتي حسن خالد أو حتى الرئيس رينيه معوّض الذي لديه عصبية في زغرتا؟ لم يتجرأ أحد على المطالبة بدم أي من هؤلاء، من سيتجرأ على المطالبة بدم رفيق الحريري الذي هبط ، في أعتقاد الجهلة،على السياسة اللبنانية بالمظلة؟ هذا ما كان يظنّه أولئك الذين كانوا وراء الجريمة والذين نفّذوها مستخدمين متفجّرات زرعت تحت الأرض كما سيثبت التحقيق عاجلاً أم آجلاً.

لم يدرك ميشال عون أنه صار جزءاً لا يتجزّأ من عملية تغطية الجريمة. كان يعتقد أنه يمتلك ما يكفي من القدرة على التمثيل بما يمكنه من أخفاء دوره الحقيقي في تغطية الجريمة والجرائم اللاحقة وآخرها أغتيال العزيز جبران تويني وقبله الأخ والحبيب سمير قصير والمناضل العربي جورج حاوي. ربّما أدرك عون منذ البداية الدور الطلوب منه تأديته ولذلك وقرر التعاون مع المجرمين والمشاركة في الجريمة من حيث يدري. والأرجح أن هوسه بمنصب الرئاسة جعله على علم تام بأنه مجرّد أداة عليها أكمال ما هو مطلوب منها...بغية الوصول الى الهدف بغض النظر عن الثمن المطلوب دفعه!

هل يصلح ميشال عون أصلاً لأن يكون أكثر من أداة هو الذي ادخل السوريين الى قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية في العام 1990 بعدما سهّل عملية أغتيال رينيه معوّض الرئيس المنتخب بموجب أتفاق الطائف والذي كان هناك اعتراض سوري عليه. لم يبخل ميشال عون على النظام السوري بشيء. كان مجرّد أداة طيّعة نفّذت كل المطلوب منها. والأدلّة على ذلك كثيرة وبينها دخوله في مواجهة غير محسوبة المخاطر مع ميليشيا quot;القوّات اللبنانيةquot; أدت الى نقل خطوط التماس الى داخل المنطقة الشرقية. لا يمكن تبرير ما أرتكبته quot;القوّاتquot; في تلك المرحلة، ولكن يبقى السؤال كيف يمكن لقائد عسكري أسمه ميشال عون بلوغ مثل هذه المرحلة من التهورفيجرّ رجاله الى حرب خاسرة سلفاً، ثم يندفع للحصول على مساعدات وتموين من عملاء مكشوفين للنظام السوري من نوع أيلي حبيقة أو الحزب السوري القومي الأجتماعي...لأستكمال المهمة الموكلة اليه والتي تتلخص بتسليم المنطقة الى السوريين... والأنقلاب على الطائف.

هذه وقائع برسم من يريد أن يتعلّم من دروس الماضي والا يُلدغ من الجحر مرة أخرى. أنها وقائع لا يستطيع أزلام الأستاذ عون الردّ عليها سوى بالشتائم لأن ليس لديهم ما يستطيعون دحضها به. ولكن لحسن الحظ، بدأت الاعيب quot;الجنرالquot; تتضح للجمهور المسيحي في لبنان وبدأ كثيرون يتساءلون ما الذي يريده الرجل الذي لا يريد أن يصدّق أن لا أمل لديه في الوصول الى الرئاسة، خصوصاً أنه يتبين كلّ يوم مدى جهله في السياسة وعدم قدرته على فهم المعطيات الأقليمية والدولية أو أستيعابها.
المؤسف أن الدور الوحيد الذي يستطيع الرجل تأديته هو دور متعدد الوجه لكنه يصب في أتجاه واحد هو أبقاء لبنان quot;ساحةquot; للصراعات الأقليمية وتفويت فرصة الأستفادة من الفورة النفطية التي تشهدها منطقة الخليج في هذه الأيام. أنه دور مكمل لذلك الذي نذر أميل لحّود نفسه من أجله... دور ربط لبنان بالحل النهائي للصراع العربي-الأسرائيلي وعودة اللاجئين الى ديارهم الأصلية. أنه الدور الذي تريده أسرائيل للبنان في نهاية المطاف، دور البلد غير المستقر الذي يمارس الآخرون على أرضه ألعابهم المفضّلة. هل صدفة أن رصاصة لم تطلق من الجولان المحتل منذ العام 1974 وأن quot;الجنرالquot; لا يريد أن يتعاطى مع هذه الحقيقة وينوي أستمرار التضحية بلبنان، في وقت زاد عدد المسلمين اللبنانيين الذين بدأوا يعون هذا الواقع وبدأوا يرفعون شعار quot;لبنان أوّلاًquot;؟

هل من أمل في أن يستعيد quot;الجنرالquot; وعيه وأن يتذكّر ما كان يقوله في فرنسا التي فرّ الى سفارتها أوّلا تاركا جنوده يستشهدون في أرض المعركة وعائلته في حماية أيلي حبيقة؟ من الصعب على ميشال عون عمل ذلك، لأن الأعتراف بالخطأ لا يمارسه الاّ الكبار الكبار الذين يمتلكون ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الحقيقة والتعلّم من الدروس الماضي. وما قد يكون أهمّ من ذلك، أن الكبار الكبار يمتلكون حدّاً أدنى من الوفاء للذين ناصروهم ووفروا لهم الدعم في أيام الشدة. أحد هؤلاء لم يجد ما يصف به التصرفات الأخيرة لquot;الجنرالquot; سوى القول أمام الناس أن ميشال عون الذي عرفناه quot;بقي في فرنساquot;... اما علاقته الجديدة بquot;حزب اللهquot; فهي quot;زواج متعةquot;. هل يتذكر ميشال عون الشخص الذي قال هذا الكلام؟ أنه الشخص الذي أنتشله من الحضيض أيام كان هذا الشخص لا يزال يعتقد، من باب المكابرة، أن quot;الجنرالquot; رجل مبادئ... الى أن أكتشف الحقيقة. الحقيقة مؤلمة، لكنها تشفي. عقبال شفاء quot;الجنرالquot; من الأوهام والأمراض التي أوصلته الى أن يكون الأداة المفضلة في عملية أبقاء لبنان quot;ساحةquot; للآخرين.