التاريخ بوصفه صندوقَ حكايات
حكاية أولى ؛ في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، تم إنتاج فلم عراقي تاريخي وبالألوان، تحت عنوان نبوخذ نصر، بعد أسبوع من العرض أحجم الناس عن مشاهدته، فقد اكتشف المشاهدون، أن الممثلين جميعا يضعون الساعاتِ على معاصمهم.ومن هذا كان التصادم في الوعي، اعتبر الجمهور أن صناع الفلم قد أهانوا ذكاءهم، حينها سارع طاقم العمل برمته، نحو شرح الالتباس الذي وقع فيه الجمهور، فالممثلون كانوا يضعون زهرة في معاصمهم، هي تعويذة المحارب في ذلك الزمان، وليس ساعة حديثة، وعلى الرغم من الطرح والاستعانة بصور منقولة عن المتحف العراقي، والحملة الصحفية الواسعة للشرح والتفسير، إلا أن الجمهور قد اتخذ قراره.
حكاية ثانية؛ في مناقشة علمية لرسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي، احتد أحد أعضاء اللجنة على الطالب المناقش، حين أورد لفظة، الكفاح المسلح، على حدث تم خلال عصر الدولة العباسية، عندها لم يتردد الطالب من الإجابة الاستنكارية، وهل الكفاح المسلح مرهون برشاش الكلاشنكوف حكرا.
الحكاية الثالثة؛ كان الأستاذ عبد العزيز الدوري يدرس مادة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، بوصفه مساقا جامعيا لعموم طلبة جامعة بغداد، وفي القاعة الدراسية الواسعة التي تضم مئات الطلبة، كان يهمسُ في أذن أحد طلبته، خبرا تاريخيا قصيرا، ويطلب منه أن يمرره على الزميل المجاور له، وما أن تصل الورقة إلى الطالب الأخير الجالس في المؤخرة، يكون الخبر الصغير وقد حمّل بمتون وهوامش وتعليقات وزيادات، وربما تهويلات.

النص واللغة
في البحث عن مفردة الإصلاح لدى ابن خلدون، في موقع الوراق الإلكتروني، توجد مفردة الإصلاحفي تاريخه العام فقط، و بواقع أربعة عشر موضعا.وجاءت جميعها في معنى إصلاح ذات البين. فيما وردت مفردة الصلاح في سبعة مواضع عند المقدمة، وبمعنى ضد الفساد، باعتبار الجذر، صلحَ، يصلَحُ ويصلُحُ وصُلُوحا، لكن هذا لا يمنع صاحب لسان العرب من القول والإصلاح: نقيض الإفساد.(( ابن منظور المتوفى 717 هجري،لسان العرب، جذر صلح)).ترى ما الذي جعل من ابن خلدون يعرض عن استخدام مفردة الإصلاح في مقدمته، مؤثرا عليها الصلاح، وإذا ما وضعت المقارنة باعتبار الاختلاف في اللهجات، فإن ابن منظور عاش في مصر، كذلك ابن خلدون كانت له تجربته المشرقية في مصر أو الشام.

من الصلاح الخلدوني إلى إصلاح الراهن
نعود إلى الحكايات الثلاث، عن الأولى يتقدم الوعي، بوصفه رأسمالا رمزيا، حتى أن المثل الشعبي يقول ؛(( حين وزع الله رب العرش العظيم العقولَ على الناس، الجميع رضي بعقله، ولكن حين وزعت الأرزاقُ، لم يقنع بها أحد )) حتى كان التنادي بأن القناعة كنز لا يفنى.إنها العلامة الحمراء التي جعلت من عبد الملك بن مروان يردها سخينة بوجه جرير، حين بادره قائلا:
أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح
وهي الطريقة التي أراد بها برنارد لويس أن يسلب إدوارد سعيد رأسماله الرمزي، حين أشار إلى وصفه بالمهمل والمستهتر بترجمته لأبيات شعرية من غوته في الأصل الألماني إلى الإنكليزية،حين يقول (( الله هو الشرق! الله هو الغرب!)) في الوقت الذي يجب أن يكون النص(( الشرق لله ! والغرب لله))، من كتاب، (الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة وتحرير هاشم صالح، ص 173.).
الحكاية الثانية تقوم على ضبط المصطلح العلمي، وهي إشكالية ما انفكت تحضر دائما، في المجمل من الدراسات المتداولة، بل أن أزمة المصطلح اتخذت طابعا تداوليا أشد مباشرة، في أعقاب تصعيد المواجهة بين الغرب والإسلام، حتى أن مصطلح الإرهاب على سبيل المثال، راح الجميع يطالب بوضع تعريف محدد له.أما الحكاية الثالثة، فإنها تقوم على التاريخ بوصفه ممارسة، والتفاصيل التي يمكن أن ينجم عنها والعواقب والأوهام والمزالق المحتملة.

في قياس درجة التحول
ماهو المتاح والممكن، ونحن بإزاء محنة القياس التاريخي، هل يمكن الركون إلى تنويع مستويات التحليل للنصين التاريخين، الخلدوني والراهني؟هل من الممكن الاطمئنان إلى فرز الاختلاف والتشابه القائم بينهما؟، كيف يمكن رصد خصوصية التحديات التي يتمثلها كل نص؟ومن أي زاوية يمكن النظر من خلالها إلى رصد المتغيرات؟
كأننا نعود إلى دورة الوعي، والضبط والممارسة، تلك التي توفرها طريقة التحليل التفسيري، باعتبار مجال الوقوف على النموذجين والسعي نحو رصد اللاحق، باعتبار مطابقته على السابق.ولكن كيف يمكن لنا أن ندخل في مساحة التفسير من دون الوقوف على الملامح الدقيقة والراسخة لملامح النموذج السابق؟هل نعود إلى محنة البيضة والدجاجة، هل نفسر الماضي بالحاضر؟، أم الحاضر بالماضي؟ وهكذا يترصد كمال عبد اللطيف التساؤل المكين الذي يؤسس له فهمي جدعان (( إذا كان الماضي أو بعضه ممتدا فينا فاعلا ومؤثرا، فإن الحاضر يعيد تشكيلنا، ويحكم أفعالنا وقصودنا، ويسلمنا إلى مستقبل لا ندري ما الذي يحمله لنا على وجه التحديد، لكنه بكل تأكيد لن يدعنا خالصين للحاضر الذي نتقلب فيه، أو للماضي الذي ينأى عنا أو يمتد فينا)) كمال عبد اللطيف، أسئلة النهضة العربية، ص 199. إنه سؤال أبو يعرب المرزوقي المستند إلى (( الربط بين الماضي والحاضر من خلال تجاوز ما يسمى بعصر الانحطاط ربطا حيا لا يستهدف بعث الميت من القضايا، بل مجرد المقاصد من الفعل المؤسس لوجودنا التاريخي، ومن ثم فإن الشرط الأساسي هو التخلص من كل الآثار العينية للحلول والحفاظ على المقاصد والطموح التاريخي لا غير)) المرزوقي، آفاق النهضة العربية، ص 25. هي أزمة الدولة التي يحددها برهان غليون والتي يصفها(( إلا مظهر من مظاهر أزمة المشروع التاريخي الذي نذرت نفسها له، أعني تحقيق التقدم، سواء من خلال استراتيجيات قومية أم وطنية، انقلابية أم إصلاحية، إنه أزمة الحداثة ذاتها)) غليون، المحنة العربية ص 214. إنها دعوة محمد عابد الجابري المستمرة والدائبة (( قيام كتلة تاريخية تضم أكثر ما يمكن من الشرائح والفصائل والنخب، لأنها أهداف لا تستطيع أية طبقة أو فئة أو حزب أو جماعة بمفردها القيام بها وحدها..... الظرف التاريخي القائم اليوم يفرض نوعا من التأجيل- لمدة قد تطول أو تقصر)) الجابري، في نقد الحاجة إلى الإصلاح، ص 200.

ترى من هذا الذي يجرؤ على مقارعة السردية الكبرى التي بات يتمثلها ابن خلدون، بكل ما فيه من تكيفات وتعديلات واحتمالات واستراتيجيات.لقد عيرت العرب بنو تغلب بقصيدة قالها عمرو بن كلثوم، فهل آن الأوان أن نعير بمقدمة ابن خلدون؟! وهل عجز العقل العربي الراهن عن الوعي بسياقاته، ورهاناته، ورؤيته،و تحدياته، ومتغيراته، وهل يمكن الاكتفاء بعقد المقارنة المباشرة، والقائمة على:
السياق المحافظ الخلدوني والمرجعية الفلسفية الغربية لسياق الراهن، ورهان العصبية الخلدوني، ورهان الدولة الراهن، ورؤية العمران الخلدوني، و الراهن القائمة على رؤية الثقافة، والغزو العسكري في التحدي الخلدوني، والغزو الثقافي في التحدي الراهن، والمتغيرات المستندة على المجتمع التقليدي عند ابن خلدون، و متغيرات الراهن المستندة إلى الحداثة المنقوصة.

د.إسماعيل نوري الربيعي- جامعة البحرين- كلية الآداب
[email protected]