1
يقترن اسم ابن خلدون بمسألة إعادة الاكتشاف، والإعادة هنا لا تتعلق بحالة الاكتشاف المباشر لمقدمته، الذي جاء أوربيا في أعقاب الغزو الفرنسي للجزائر عام 1830.أو عربيا حين توجه الشيخ محمد عبده لتدريس المقدمة في دار العلوم، ولا في طباعتها في العام 1858 في باريس و القاهرة. بقدر ما يقوم الأمر على القيمة المعرفية التي تنطوي عليها، وحالة التجديد الكامن فيها، من حيث طبيعة المعالجة الفكرية، المستندة إلى النقد والتحليل وإحكام العقل فيها، حتى لتتبدى كجهد عقلي فيه التنوع والفاعلية والحراك المعرفي الدقيق، القابل للاستجابة من مختلف زوايا النظر، ومن واقع التفعيل لمفاهيم العصبية وتعاقب الدول والعمران والتطور التاريخي، تكون المقدمة بمثابة الجهد البشري الخارق، والتي عمد المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى وصفها قائلا: ((إن ابن خلدون قدم للفكر البشري فلسفة للتاريخ تعد أعظم عمل لم يسبق أن أنجزه عقل بشري، في أي زمن وأي مكان من قبل.)). والواقع أن المقدمة تبقى متجددة فيها من التكيف الشيء الكثير بالنسبة لعنصري الزمان والمكان، حتى ليكاد القارئ، يستشعر فيها قوة الحجة ورصانة الجملة واكتمال الفكرة، بل أن حالة التماهي بين النص والقارئ يكاد يكون بمثابة الثيمة البارزة للمقدمة، تلك التي يكون لها القدرة على التسلل اليسير والسهل في نفس المتلقي، من دون أن يبرز ثقل الفاصل الزماني، بل أن الأسلوب والمنهج الذي اختطه ابن خلدون يكاد يكون متوافقا، مع مشغلات التفكير المعاصر.حتى برزت العديد من الدراسات المعاصرة التي راحت تقدم رؤاها المعرفية المكينة استنادا إلى الدرس الخلدوني العميق والفريد، والذي راح يتبدى حاضرا في المجمل من الدراسات الإنسانية العميقة، والتي اجتهد في تقديمها أساطين الفكر العالمي الحديث والمعاصر.
2
تنطوي الرؤية التاريخية الخلدونية على القدرة النابهة والواضحة في طريقة المعالجة، والمستندة إلى الفصل الواضح لقراءة الحدث التاريخي، وتمييزه، والسعي الجاد والعميق نحو بلورة تفاعلاته مع مجمل العلوم في المجال العربي الإسلامي، إن كان على صعيد علوم الحديث، أم على صعيد تأثير السياسة في التاريخ، ومن هذا الفصل قيض لابن خلدون الوقوف على حالة الإفصاح البين الخالي من التداخل بين المفاهيم السائدة، وعلى هذا نراه يقف وبثقة غير قابلة للبس أو التشابك بين المصطلحات، ليقف على تحديد أبرز المصطلحات التي زينت مقدمته والقائمة على تحديد سمات مفاهيم من نوع الخلافة والملك والسلطان والدولة والأمة، ومن واقع التوظيف العميق والدال، للمزج بين الاجتماعي والتاريخي، موضحا مدى العلاقة الراسخة والعميقة بين التاريخ بوصفه وعيا والعمران البشري بوصفه الفاعل والمنتج والمؤثر الأهم في الصنع والتكوين والتراكم وتحديد مسار التجربة. ومن هذا فإن السمة المنهجية المميزة لعلم التاريخ، إنما تبرز على يد هذا المؤرخ الذي قيض له أن يحدد للتاريخ مقوماته الخاصة، والتي تفصله عن بقية العلوم السائدة والمتداولة.لكن الملفت في التجربة الخلدونية تبقى مستندة إلى طغيان العنصر الزماني، الذي راح يتفاعل في مسارين، تمثلا في ؛ بروز حركة فكرية واضحة المعالم والقسمات خلال القرن الرابع عشر الميلادي، ومن روادها ابن منظور في علوم اللغة وابن بطوطة في الجغرافيا والبلدانيات وابن خلدون في علم التاريخ. وحالة التوقف الممض الذي أعقب تلك الحقبة حتى لحظة الاكتشاف الذي تم في القرن التاسع عشر.
3
تكمن القيمة المعرفية للجهد الذي قدمه ابن خلدون، في توجهه العميق نحو إبراز ملامح علم التاريخ والسعي نحو تمييزه عن باقي العلوم التي ارتبط بها، والواقع أن التمييز هذا جاء عبر منظومة منهجية دقيقة، تم له من خلالها الوقوف على المقارنات والتحليلات والنقد والفحص والعناية بالخبر التاريخي، . ومن هذا كان الوقوف على جملة من القوانين التاريخية، والتي أبرز المدى والقدرة المميزة التي تحصل عليها ابن خلدون، هذا بحساب قدرته على ربط العلاقات من خلال توظيفه البارع بين التجربة والبرهان، ومن هذا فإنه تمكن من تفعيل التاريخ بزخم التجربة الواعية ودمجه مع طبائع العمران، بوصف هذا الأخير موضوع التاريخ الأصيل. وعلى هذا كان تطلعه نحو استقلال التاريخ وتمييزه بوصفه حقلا خاصا له مقايساته وشروطه واجتهاداته البعيدة عن شروط واجتهادات وبراهين العلوم الأخرى. فالتاريخ بهذا المعنى يكون بمثابة المرصد للاجتماع البشري ومجمل الأحوال والأوضاع التي تمر على الموجودات والعمران من تطور وتأخر، عمران وخراب، ازدهار وانحطاط، أقوام ومجتمعات، دول وملوك وأمراء وسلاطين، حضارات ونظم وفعاليات اقتصادية وأنشطة حرفية وتجارية وعلوم وثقافة وعادات وتقاليد وطبائع. فالتاريخ هنا يمثل الكل الموضوعي الذي يميز هذه المجموعة البشرية عن تلك.
4
يبقى ابن خلدون ممثلا للثقافة العربية الإسلامية، تلك الحاضنة والوعاء الثقافي الذي وفرت له القدرة على التمييز والعطاء، حيث الخبرة المعرفية والإنسانية التي هيأت له المعطيات التي استند إليها في بحثه العلمي الدقيق والنابه. ومن هذا فإنه وفق للتماهي مع هذه المعطيات عبر الاستيعاب الواعي للدرس المنهجي العربي الإسلامي والذي تمثل في نقد الأخبار والتحقق من الأسانيد، والتمييز في مجال العلوم العقلية والنقلية، تلك التي كانت بمثابة المهاد الذي استوعب المنهجية الخلدونية، عبر الاندراج في التوظيف العميق والدال، لمنظومة النقل من خلال شرط العقل، والعمل على نقد الخبر التاريخي، من خلال وضعه تحت مشرط العقل ومحاولة مقارنته مع الواقع ومدى مطابقته له.والواقع أن الدربة المنهجية تلك لم تأت عبر مصادفة عرضية، بقدر ما ارتبطت بطبيعة النشأة وتراكم الخبرات التي توفرت لهذا الرجل الذي عمل في الحقل السياسي والسفارات والقضاء والعلوم الشرعية.، بل أن المساهمة تبرز عبر طبيعة الأحداث والظروف والوقائع التي أحاطت به.وهكذا يكون ابن خلدون نتاجا واقعيا لطبيعة الظرف التاريخي الذي أحاط به، من حيث المكونات السياسية التي برزت في المغرب العربي، وحالة الشقاق والصراع بين الإمارات المتصارعة والمتطاحنة بحثا عن الملك والسطوة والجاه، وحالة الفصل الفاضح التي استشرت في توزيع الكيانات السياسية في المنطقة، حتى كان الحديث يترى عن الخلافة والإمامة والملك والسلطنة.، وبالقدر الذي كان فيه ابن خلدون قد تماهى مع هذا القدر من الصراع السياسي المرير الذي طبع المنطقة، فإن عزلته التي اختارها بنفسه من أجل كتابة سفره المعرفي، تأتي عبر قرار واع، شديد التحديد، حيث التصميم والإرادة نحو الفهم والتفسير النابع من عمق التجربة الشخصية، حتى كان قرار الحياد، والذي يمكن توصيفه (( بالتصوف المعرفي)) حتى راح ينظر إلى الموجودات والحالات والظواهر بعين الرقيب المحايد المتطلع نحو رصد الظواهر والعمل على فهمها وبالتالي تفسيرها.بل أن الفسحة التي توفرت له، قيضت له التمييز بين الحقول، حتى كانت سياحته المعرفية المستندة إلى توسيع مجال الرصد، الذي وفر له مجال الترقب لمجمل الحقول المؤثرة والفاعلة في التاريخ.
[email protected]
التعليقات