بعد إفلاس النظرية العروبويّة، وتأكد المخدوعين بها أنها ضربٌ من ضروب الأحلام المرضية، وبعد سقوط (المنظرين العروبويين)، وانتقالهم إلى خانة الكائنات التي في طريقها للانقراض، كأي كائن ثديي آخر، حيوانات الباندا مثلاً .. وبعد نجاح التكتلات الإقليمية التي تقوم على التكامل الاقتصادي، والمصالح لا الشعارات (المفبركة)، وبعد أن طلب اليمن الانضمام للنادي الخليجي، فطالبوه بالتأهل سياسياً وأمنياً و اقتصادياً أولاً، كما جاء في بيان قمة الرياض الخليجية ... يدور في المجالس الخليجية الآن حوارٌ حول مدى إمكانية ضم العراق الذي (خرج) للتو من قبضة (العروبوية)، أو ثقافة (النازيين العرب) . هذا الحوار يقوم على محاولة جادة للإجابة على سؤال مفاده : ماذا لو طلب العراق الجديد الانضمام إلى مجلس دول التعاون الخليجي؟
يقول المؤيدون للانضمام: العراق يقع جغرافياً على الخليج. وهو امتداد طبيعي من حيث الانثربولوجيا للإنسان الخليجي، حيث نفس القبائل تقريباً، وحيث ذات اللغة، وتقريباً اللهجات، والعادات والتقاليد، والفنون، والظواهر الثقافية الأخرى . والأهم من ذلك (الكم) السكاني الكبير عامل النقص الخليجي الأول، وحيث الثروة، والمعرفة المتفوقة في العلوم والتكنولوجيا التي يتميز بها الإنسان العراقي، والتي لم يعرف النظام البعثي العروبي كيف يستثمرها في بناء عراق يقوم على الحداثة، وينطلق من خدمة الإنسان لا الأيديولوجيا. فلماذا لا نستفيد من العراق، ولماذا لا يستفيد منّا العراقيون، فهم سيشكلون إضافة لنا، ونحن سنشكل إضافة لهم. وهذا هو سبب (التكتل الاقتصادي) في الأعراف العالمية الجديدة، الذي هو بمثابة شرط الضرورة للبقاء اليوم.
ويؤكدون : الإنسان العراقي الجديد (بال) على شيء إسمه الأيديولوجيا ، وعرف عبر تجاربه التاريخية المريرة أن الايدولوجيا هي أفيون الشعوب، بل (إيدزها) القاتل، وكل من يقول غير ذلك فتاريخ العراق كفيلٌ بتعليم حتى الحمير أن وباء (البعث) العروبي هو الذي أوصل العراق والعراقيين إلى وضعهم المأساوي في الماضي، وهو السبب الذي جعلهم يدفعون الآن ما لم يدفعه الآخرون لتصحيح الوضع، دماء وأشلاء أجساد وثروات وتخلف، يكاد لأهوالها أن يشيب الرضيع.
غير أن الخليجيين الرافضين للانضمام، ينطلقون من القول : أن العراق القديم الذي عاثت فيه فساداً العروبويّـة، تعيث الآن فيه بنفس المستوى (الطائفية) .. فالعراقيون هربوا من رمضاء العروبة وسقطوا في نار الطائفية. بمعنى : أن الأيديولوجيا (المتعفنة) هي ذاتها لم تتغير، وإن تغيّـرت العناوين و الشعارات وأزياء القادة وعمائمهم.
عراق اليوم هو عراق طائفي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى . ولأنه كذلك، ولأن الذي يتحكم فيه الآن هم (رجال الدين) لا أهل التخصص، وإن وجدَ أهل تخصص هنا أو هناك فهم مجرد (ديكور)، فإن انضمام العراق الطائفي الجديد سيكون بكل ما تحمله الكلمة من معنى حملاً خطيراً، يُلغي أي إيجابيات للعوامل الأخرى الذي يتحدث عنها المؤيدون، مما يجعل المحصلة تنتهي إلى القول : لا .. لعراق طائقي، مثلما قلنا : لا .. لعراق عروبي.
وهذه القضية تأخذ أبعاداً خطيرة، وربما مدمرة، إذا أخذنا في الاعتبار أن الخطر الأول على الخليج يأتي من (إيران الفارسية)، التي يتحكم قادتها وحكامها (الفارسيون) بالعراق الجديد مثلما يتحكم الملاك في أملاكهم. فالإيراني (السيستاني) الذي يتربع على رأس المؤسسة الدينية (الوطنية) في العراق، والذي يرفض حتى الجنسية العراقية، هو الناخب الأول والأهم والأقوى في ديمقراطية العراق الجديد، كما تقول صناديق الانتخابات. لذلك فإن انضمام العراق إلى النادي الخليجي، سيجعل من الكثرة العددية العراقية، والثروة العراقية، بمثابة الفرصة السانحة لإيران، ذات النظام القومي الفارسي في (العمق)، والشيعي في (الشكل)، لأن تتحكم ليس في العراق فحسب، وإنما سيمتد نفوذها إلى الخليج كله، مما سيجعلنا ننتقل من (التنمية الاقتصادية)، ومكافحة وباء الأصولية السنية الصحوية، إلى مواجهة أصوليتين (سنية وشيعية معاً)، بل ربما سنهيئ من خلال انضمام العراق المناخ المناسب - بكل المعايير - لإشعال حرب بين الأصوليتين السنية والشيعية، تماماً كما يجري في العراق الآن، الأمر الذي يجعل انضمام العراق الجديد الطائفي مرفوض بكل المقاييس لهذه الأسباب الموضوعية تحديداً.
فالعراق الجديد بعد أن تخلص من وباء (العروبوية) النازية سقط عبر الآلية الديمقراطية هذه المرة في أوحال (الأصولية الشيعية)، هذه حقيقة لا يُزايد عليها إلا مغالط . لذلك فالعراق و العراقيون، في حاجة أن يمروا ndash; على ما يبدو - بتجربة جديدة مع الأصولية، مثلما جربوا أهوال (العروبوية)، قبل أن يصلوا إلى قناعة تامة أن (الليبرالية) هي الحل.
وحتى يصل العراقيون إلى هذه الحقيقة - والتي سيصلون لها لا محالة - يجب أن نتريث .. فلقد عرفنا نحن الخليجيين معنى جحيم الأصولية، وذقنا منها الأمرين، فلماذا نضيف إلى مأساتنا مأساة أصولية جديد؟