ما أن بدأت الطائرة بالنزول إلى مطار اربيل الدولي حتى بدت لنا المدينة مترامية الأطراف، مع مشاريع سكانية ظخمة تحت الإنشاء. و هذا مؤشر بلا شك على نهضة تنموية كبرى منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. كما يعكس الاستثمار العقاري الجديد ثقة كبرى للمستثمرين في مستقبل إقليم كردستان العراق. والحقيقة أن مهرجان الربيع الذي نظمته مؤسسة المدى برآسة الأستاذ والمناضل التقدمي فخري كريم، خلال الفترة 22 ndash; 28 ابريل الماضي، أتاح لي ولباقي الحضور فرصةً فريدة للتعرف على الإنجازات التي حققها هذا الإقليم منذ أن بدأت عملية البناء تحت الحماية الدولية اثر هزيمة الطاغية في حرب تحرير الكويت.
سارعت سلطات الإقليم المحرر منذ عام 1992 إلى تخصيص نفقات تعادل 200 دولار للفرد الواحد للنهوض بالإقليم المدمر. شمل هذا البنية التحتية والمجالات الحيوية للصحة والتعليم. وبدأت بالتوازي عملية بناء المؤسسات، حيث تم إنشاء الإدارة العمومية وانتخاب برلمان حر تحتل المرأة فيه نسبة 25% (وهي من أعلى النسب في العالم). وازدهر الإعلام حيث يوجد اليوم ما لا يقل عن 12 صحيفة تحقق أكبرها مبيعات يومية بحدود 7000 نسخة. كما تنوعت القنوات التلفزية باللغات الكردية و العربية وواحدة باللغة التركمانية.
وفر سقوط الطاغية في 2003 فرصة جديدة للنهوض بالإقليم، حيث تعززت الثقة بالمستقبل الآمن، ووفرت مستحقات الإقليم من دخل النفط موارد مالية تساعد على المضي قدما على طريق البناء.
في اربيل، تم إنشاء هيئة لتطوير الاستثمار و يجري الإعداد حاليا لإصدار قانون الاستثمار الأجنبي، كما يتم العمل على إنشاء مدينة صناعية بدعم من البنك الدولي، و منطقة حرة للأعلام مستوحاة من نموذج مدينة دبي للأعلام. كما تم بناء جامعتين و مطار اربيل الدولي الذي بدا نشاطه منذ 2005. و في مدينة السليمانية، استحدثت مؤسسات مماثلة، منها هيئة تشجيع الاستثمار التي نجحت مؤخرا في جلب استثمارات تقدر بـ 900 مليون دولار لاحد اكبر شركات صناعة الأدوية في أمريكا، التي تخطط للانطلاق من الإقليم لتوزيع منتجاتها بباقي أنحاء العراق.
و المثال السابق ليس وحيدا على ما يبدو. جاء في تقرير إخباري لوكالة رويترز للأنباء بتاريخ 29 إبريل الماضي: quot; لا يقتصر القدوم لإقليم كردستان على مهاجري الشتات. تم شراء قصر السليمانية من طرف شركة لبنانية. شركة نورفيجية تعمل في التنقيب عن النفط. و شركات متعددة الجنسيات تركية، بريطانية، صينية، ايرانية و من جنسيات أخرى تعمل على إيجاد موطئ قدم لها في الإقليم.
تأتى هذه الشركات إلى إقليم كردستان العراق لا لسواد أعين الكورد و إنما بناء على معطيات صلبة لما يوفره الإقليم من فرص استثمار واعدة. في مجال الزراعة، يتمتع الإقليم بأراضي خصبة و كميات هائلة من المياه تؤهله ليصبح quot;مطمورة العراقquot; بإنتاجه للحبوب. كما يمكن لزراعة الفواكه بالطرق العصرية و تربية الماشية أن تؤسس لصناعات غذائية تغطي احتياجات باقي أقاليم العراق و منطقة الخليج، و نفس الشيء بالنسبة لصناعات مواد البناء وغيرها... ويمثل استغلال الموارد النفطية أحد اقصر وأنجع الطرق للحصول على الأموال الضرورية لتطوير الإقليم، حيث تم بداية مارس الماضي التوقيع على اتفاقية مع الشركة الكندية (كي بتر وليوم كمباني) للتنقيب عن النفط و يتم الإعداد حاليا لوضع شروط تقاسم الإنتاج.
ولا بد من التنويه، في هذا الإطار، بالإعلان عن توحيد الإدارتين في اربيل والسليمانية في يناير الماضي والإعلان عن حكومة موحدة لإقليم كردستان العراق التي حضيت بإجماع أعضاء البرلمان الأسبوع الماضي، والتي أكدت على العزيمة السياسية لقيادات الإقليم للمضي قدما على طريق البناء ورغبة في المشاركة الشعبية في صنع القرار، حيث تم خلال الإعلان عن الحكومة الجديدة عن توزيع 11 وزارة (من مجموع 27) على الأحزاب الصغيرة، وهذا افضل مثال حي للديمقراطية التوافقية الملائمة للعراق وربما الديمقراطيات الناشئة تفاديا لظلم أي مكون سياسي ودفعه بالتالي إلى الاحتجاج باللجوء للعنف المسلح. وأملنا أن تتضافر المؤشرات على أن يكون إقليم كردستان العراق منارة لتحرير الأقليات المظلومة والمقموعة في العالم العربي ونموذجا في البناء الاقتصادي والاجتماعي لباقي أقاليم العراق الحر الجديد.
باحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية و خبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
بريد إلكتروني : [email protected]
التعليقات