مثل ربع مليون نسمة، هم سكان مدينتي خان يونس، أعيش وأكتب كلمات هذا المقال، على لهب شمعة. كما أكتبها على وقع القذائف والصواريخ. قذائف من جميع الأنواع والأحجام، ترسلها شواظاً من جحيم، دباباتٌ من نوع المركفاه على نحو خاص. وصواريخ من نوعين أو ثلاثة تحديداً، ترسلها طائرات الإف 16، والأباتشي، والاستطلاع _ التي أعطاها أهل غزة هنا اسم quot; الزنّانة quot;. إنها الحرب في بواكيرها. أعطاها العسكريون الإسرائيليون اسم quot; أمطار الصيف quot;، ولم يخترع المدنيون الفلسطينيون لها اسماً بعدُ. فالفلسطينيون لا يعنيهم الاسم بقدر ما يعنيهم الفعل. ثم لقد علّمتهم التجارب المريرة، ألا يلتفتوا إلى عبقرية المخيلة الإسرائيلية في اختراع الأسماء. لكأنّ الإسرائيليون، في هذه النقطة بالذات، يلجئون إلى مبدعيهم الأدبيين _ فغالباً ما تصلح أسماء عملياتهم الدموية، عناوينَ لروايات أو حتى لدواوين شعر! إنهم تحديداً يلعبون على لغة المجاز الجميلة، لإخفاء بشاعة وفظاعة ما تحت الاسم من مُسمّى. ذلك عهدهم، ولعلّهم أخذوه عن أمريكا، أو هي التي أخذته عنهم. ما علينا.. الآن تبدأ الحرب. حرب أقل ما يقال عنها إنها ظالمة. ظالمة لأنها تدور بين طرفين، لا وجه للمقارنة، بين إمكانيات كلّ منهما. هم بآخر جيل من الأسلحة والعتاد والتدريب، ونحن بصدورنا العارية وبحوائط بيوتنا المتداعية. ودعكَ الآن من سلاحنا الفلسطيني الأشهر: الكلاشينكوف، فهذا مضى زمانهُ وانقضى، رغم أنّ مخترعه حياً ما يزال. ودعكَ أيضاً، مما تراه على شاشة الفضائيات، من تصريحات قادتنا السياسيين والميدانيين، فهؤلاء تأخذهم عزةُ الشهرة والموقع، بإثم قول ما ليس حقيقياً أحياناً. ذلك أننا، ومنذ كنا، قبل 1948، وحتى هذه اللحظة: غلابا لم نبرح! غلابا ومكشوفون، وصدورنا قبل ظهورنا إلى الجدار الأخير. فقط ثمة من لا يرى، سيان عاش بين ظهرانينا أو بعيداً عنا، أو يرى فقط من خلال الشاشة، فلا يتحرّك فيه شيء. لقد نسي هؤلاء، لسبب ما، تلك الحقيقة البسيطة الدامغة: ليس مَن عاش الحرب كمن رآها في التلفزيون. ومع ذلك، كل هذا لا يهمّ: الأهمّ أن الحرب قد بدأت، ولا أحد يعرف متى تنتهي. والأهمّ أنها هنا هاهنا، وليست في كوكب المريخ. ماذا يعني هذا ؟ يعني أكثر ما يعني، أن ثمة ضحايا وقعوا وسيقعون. بيوتاً هُدمت وبيوتاً تنتظر الهدم والتجريف. شباباً سيغيبون عن الحياة، مرةً واحدة وإلى الأبد. صبايا فقدن عرسانهنّ في لمحة. نساء ترمّلن في لمحة أيضاً. الأهم أن ثمة أصحّاء سيتحوّلون إلى ذوي إعاقة، وستكون لهم، من الآن فطالعاً، كراسي متحركة. هم الذين لم يكونوا يهمدون عن الحركة ليلاً ولا نهاراً. الأهمّ أن ثمة أولاداً سيكونون من الآن فطالعاً، أيتاماً إلى الأبد أيضاً. ولسوف تنضم أمهاتهم، إلى طابور طويل من جيش متسولي الصدقات، على أبواب وكالة الغوث، ووزارة الشئون الاجتماعية، والمؤسسات الاجتماعية لحركة حماس. كل شيء، سيؤول إلى نهايته في آخر المطاف. ستضع الحرب الظالمة أوزارها وستذهب. وسيرسل المتعاطفون بالكلام، عواطفهم النبيلة، ثم تأخذهم الحياةُ إلى مشاغلها التي لا تنتهي. أما هؤلاء الضحايا، فلن تعود حياتهم أبداً، كما كانت قبل الحرب. لقد انكسرَ فيهم شيء بل عدة أشياء على حين غرّة. انكسرت أعماقهم _ بكلمةٍ. مدار عيشهم ليس هو المدار. وما سينتظرهم ليس هو ما عاشوه من قبل. يطلبون منكَ ألا تختصر المسألة في جانبها الإنساني فقط. يطلبون منكَ أن تربطها بالسياسة. شعب مظلوم وآن أن يأخذ بعض حقه ويرتاح ككل الشعوب. حسناً، لن تختلفوا في هذا، لكنك ترى من زاوية خاصة بك. زاوية لا يصحّ لمن يُجلّ الحياة الإنسانية في جزئها ومُطلقها، أن ينساه. على الأقل: هذا مُقتَربُكَ كمثقف وكشاعر. أما السياسة، بألاعيبها، وبافتقارها إلى النزاهة، فلتدعها لهم، إلى هؤلاء الطالعين _ يا لسوء حظ شعبك _ من كهوف الفساد وشهوة السلطة ولو على جمل وناقة _ quot; فتح quot;، ومن كهوف الأيديولوجيا النرجسية الفاشية، التي تُجلّ [ النص القديم وتفسيرها الواحدي له ] ينما تحتقر كل حقائق الواقع _ quot; حماس quot;. الحربُ تبدأ. أمر غير حسن على الإطلاق. بخاصة إذا بدأت في بلاد لا تملك من مقومات الصمود، غير شبق عزيمتها في العيش. محض هذا الشبق، ولا شيء أمامه ولا وراءه. فهل بهذا الشبق وحده تُدار الحروب وينتصر المظلومون ؟
إسألوا خالد مشعل، إن كنتم لا تعلمون! أما نحن، فلنا أن نغصّ بآلامنا، صامتة وغير صامتة. ولنا أن نتعذّب ببقية من عقولنا، شقية أو غير شقية. فالعام عام حرب، والعام عام جورج أورويل: عام الأخ الأكبر خالد مشعل، وعام الآباء الكلّيين. ومع هؤلاء، لا يصحّ أن تسأل، ولا أن تستفسر. حتى ولو كانت البديهيات، تضغط عليك وتعتصر وعيكَ بين شقّي رحى.
إنها الحرب إذاً. من جانب، هي حرب الجلاد على ضحيته التاريخية _ الجلاد باستعلائه الكولونيالي، والضحية بكل ضعفها الذي لم تفلح في تحويله إلى قوة . ومن جانب ثان، هي حرب انقلاب الضحية على نفسها. حرب، حرب.. وفي هذه الحرب، مثل كل حرب، ستهطل دماء كثيرة، بدل الأمطار. ولن نعرف على نحو معقول، لمَ هطلت، وما هي الأهداف الحقيقية من ورائها.
سيبدو هذا الخطاب شاذاً، وربما مُداناً بعض الشيء أو حتى كله، وبالأخص في مثل هذا الوقت: وقت التعبئة والتراص الجماعي. لا بأس. فالعقل في ما تبقى من هذه البلاد، يبدو شاذاً هو أيضاً، ليس في مثل هذا الوقت فحسب، وإنما، غالباً، في كل الأوقات. أخيراً، لا يمكن إنهاء هذا المقال، دون تحية واجبة إلى رجل علّمنا وفتح عيوننا: تحية إلى جورج أورويل، وإلى روايته الأشهرquot;1984quot;. ذلك أنه قُدّر لنا، نحن الفلسطينيين أيضاً، أن نعيش بعض أجوائها، بل أن نعيش بعض فصولها، حتى ولو مع تحوير بسيط أو خطير.