ليس مهمّاً أن يبدي أحد يتامى النظام الأمني السوري- اللبناني مقداراً كبيراً من قلة التهذيب والذوق في آن فيهاجم الرئيس الشهيد رفيق الحريري تنفيذاً للأوامر التي تلقّاها من معلّميه في دمشق. فالصغير يبقى صغيراً مهما حاول التنطح للكبار. ذلك، أن اللبناني الذي يمتلك بعض الولاء للبنان والعروبة الحقيقية يكبر برفيق الحريري وبالتمسك بولائه للرجل الكبير ولمشروع الأنماء والأعمار الذي نفّذه. ويصغر يتيم الأجهزة أكثر مما هو صغير عندما يسعى الى النيل من الشهيد الذي بنى لبنان الحديث وأعاد وضعه على خريطة الشرق الأوسط والعالم... ودفع دمه ثمناً لمعركة أستعادة الأستقلال والسيادة والحرّية والتحرر.
المهم أن يتيم الأجهزة الصغيرلم يكشف نفسه، هو المكشوف أصلاً، بل كشف أسياده ومدى تضايقهم من التطورات التي يشهدها لبنان والمنطقة. والمهم أيضاً أن أسياد الصغير بدأوا يدركون أن عليهم الأستعانة بكل ما لديهم من أدوات للتعبير عن قدرتهم على التخريب في لبنان. بالنسبة ألى اسياد الصغير وما شابهه من صغار فشلوا في التخلّص من الحكومة الحالية، بدأت الأمور تتكشف. لم يعد في الأمكان الرهان على الأداة السورية التي أستخدمت ما فيه الكفاية ألى حدّ أنتهاء صلاحيتها والتي أسمها العماد ميشال عون. فقد تبين أنّ النائب عون، أي ما يسمّى quot;الجنرالquot; لا يستطيع أن يكون اكثر من نكتة سمجة. ولم يعد في الأمكان الرهان على الحلف القائم بين quot;الجنرالquot; الظريف وquot;حزب اللهquot; ذي المرجعية الأيرانية. كلّ ما في الأمر أنّ للحزب المذهبي أجندة خاصة به قد تتفق مع أجندة النظام السوري أحياناً وقد تختلف معها في أحيان أخرى. فالحزب كان شيئاً قبل الأنسحاب السوري في لبنان، وصار شيئاً آخر بعده. وأذا كان لا بدّ من الكلام بشكل أوضح، لا بدّ من الأقرار بأنّ أيران حقّقت نجاحاً منقطع النظير عندما أستطاعت ملء الفراغ الذي خلّفه الأنسحاب العسكري السوري من لبنان عن طريق quot;حزب اللهquot;. ما حصل منذ الأنسحاب العسكري السوري من لبنان، الذي لم يرافقه للأسف الشديد أنسحاب للأجهزة الأمنية السورية، أن quot;حزب اللهquot; أنتقل من وضع الأداة السورية-الأيرانية الى وضع جديد مختلف، أي وضع الحليف من الندّ للندّ للنظام السوري. وبات يمكن للحزب أن تتطابق مصالحه مع النظام من دون أن يعني ذلك في الضرورة أن يكون تابعاً له.
في ضوء هذه المعطيات الجديدة التي لا يمكن وصفها بأقلّ من أنّها معطيات في غاية الأهميّة على الصعيد الأقليمي، لا يمكن ألاّ فهم حال الأضطراب التي يعاني منها النظام السوري لأسباب عدّة. في مقدّم الأسباب العزلة العربية التي يعيشها والتي جعلت منه نظاماً شبه منبوذ بعدما تبيّن أنّه صار تحت رحمة النظام الأيراني الذي يخيف العرب كلّ العرب، خصوصاً أنّه المنتصر الأوّل وربّما الأخير في عملية الأحتلال الأميركي للعراق. هذا النظام تظلّ له حسابات خاصة به مرتبطة أساساً بأيدولوجية معيّنة في أساسها الطموحات الأقليمية لأيران الفارسية ذات النظرة الأستعلائية على العرب عموماً.
لا شك أن العلاقة مع النظام لأيراني مصدر قوّة للنظام السوري، ألاّ أنها تظل من نوع العلاقات التي لا تتحكّم بها دمشق بمقدار ما تتحكّم بها طهران، التي تعرف بفضل الدهاء الذي تتمتع به، ماذا تريد وتحسن أستخدام أدواتها بشكل جيّد. وألى أشعار آخر، تبدو طهران هذه الأيّام غير محبّذة لتفجير الأوضاع في لبنان على العكس من دمشق التي بدأت تستوعب أن الوقت لا يعمل بالضرورة لمصلحتها. تستطيع أيران الأنتظار وهي تجد أنه يمكن البناء على النقاط التي سجّلتها في لبنان، خصوصاً بعدما نجحت في سدّ الفراغ السوري وبعدما صارت ممثّلة على نحو مباشر في الحكومة اللبنانية. أنها نقاط من النوع القابل للتطوير في أتجاه تكريس النظام الأيراني لاعباً أساسياً في لبنان أكان ذلك عبر quot;حزب اللهquot; أو عبر الطائفة الشيعية عموماً التي صارت مستوعبة أيرانياً خصوصاً أن الحزب قادر في أيّ لحظة على شقّ حركة quot;أملquot;. ولكن ربّما كان أكثر ما يضايق النظام السوري الذي لم يعد قادراً على تحمّل أيّ نوع من الأنتقادات، بما في ذلك تلك التي تصدر عن معارضين سوريين من أمثال موقعي وثيقة بيروت- دمشق، شعوره أن أوراقه الفلسطينية والعراقية ليست أوراقاً يمكن أن تحمل الأدارة الأميركية على عقد صفقة معه.
ما يمكن أن يزيد من تضايق النظام السوري، أضافة ألى سحب جزء أساسي من الورقة الشيعية في لبنان منه، أنّ الحكومة اللبنانية، مدعومة من أكثرية حقيقية، أخذت أخيراً المبادرة في مجالات عدّة خصوصاً في مجال السير ألى النهاية في قضية المحكمة الدولية التي من المقرر أن يمثل أمامها المتّهمون بأغتيال رفيق الحريري. وبغض النظر عن كلّ ما قيل ويقال عن أخطاء أرتكبتها الأكثرية النيابية، يظلّ أن هذه الأكثرية تعمل حالياً بجدّية من أجل فرض حقائق جديدة على أرض الواقع بما في ذلك أيجاد مجلس دستوري يتمتع أعضاؤه بالكفاءة والموضوعية بعيداً عن تدخلات رئيس للجمهورية فُرض على اللبنانيين فرضاً عن طريق النظام الأمني السوري- اللبناني الذي يحنّ أليه يومياً.
من أهمّ مزايا المرحلة الجديدة في لبنان أن رئيس الجمهورية الذي يُعتبر رمزاً للنظام الأمني السوري- اللبناني ووديعة لهذا النظام ، بات مهمّشاً ألى حدّ كبير وأن الأمور تسير في البلد من دون أي دور له. أنّه مجرد رئيس على قصر بعبدا يستطيع القيام ببعض الأعمال المؤذية في حقّ لبنان واللبنانيين بين حين وآخر، لكنّه غير قادر على تعطيل القرارات الكبيرة ذات الطابع المصيري من نوع قرار توفير تغطية لبنانية شرعيّة للمحكمة الدولية. يستطيع الرئيس التمسّك بسلاح quot;المقاومةquot; وهو سلاح أيراني أوّلاً وأخيراً ويستطيع الكلام عن أن لبنان مصرّ على أن يكون رهينة التسوية النهائية في الشرق الأوسط وربط مصيره بها، لكن الطفل الصغير، وحتى اليتيم الصغير، يعرف في قرارة نفسه أن الرجل خدم عسكريته وأدّى الواجبات المترتبة عليه لدى الذين صنعوه، وهم أنفسهم الذين أستحضروا ميشال عون ألى لبنان في مرحلة معينة كي يستكمل quot;الجنرالquot; مهمته الأصلية، مهمة ألأداة السورية. أوليست رعونة ميشال عون الذي راهن في أواخر الثمانينات على غبي أسمه صدّام حسين هي التي مكنّت السوريين من دخول قصر بعبدا ومقرّ وزارة الدفاع اللبنانية القريبة منه؟
كلّما مرّ يوم، يتبيّن أنّ على النظام السوري أستنفار كلّ أدواته الأحتياطية في لبنان. أنّها أدوات مبتذلة لا تدرك أن جزءاً من المآسي التي تعيشها المنطقة حالياً عائد ألى أن النظام السوري بات رجل الشرق الأوسط المريض. أنّه نظام لا يريد أخذ العلم بالمتغيّرات الأقليمية التي حصلت، بما في ذلك أن أميركا بدخولها العراق أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط. أنه نظام يقرأ من كتاب قديم غير مستوعب أنّ أدوته اللبنانية تصلح لزمن آخر ولّى ألى غير رجعة وأن عليه القبول بالحقائق الجديدة على رأسها أنّه خرج من لبنان وأن عليه أن يخرج منه أجهزته عاجلاً أم آجلاً. أنه بأختصار نظام لا يعرف أن الخطأ لا يمكن اصلاحه بخطأ آخر. لا يمكن أصلاح الخطأ، مهما كان صغيراً، ألاّ بالأعتراف بحصوله، فكيف أذا كان الأمر متعلّقاً بخطأ فظيع في حجم جريمة أغتيال رفيق الحريري. هذه الجريمة التي لا يمكن مقارنتها ألاّ بأحتلال صدّام للكويت... والثمن الذي دفعه الديكتاتور العراقي معروف!