منذ ايام والماكنة العسكرية الاسرائيلية تجتاح غزة من جديد بعد انسحابها منها العام الماضي. عشرات القتلى والجرحى خلفها الاجتياح، وسبب ذلك، هوالاعتداء الذي قامت به مجموعة فلسطينية على القوات الاسرائيلة وقامت بإختطاف احد جنودها. من جانبها طالبت اسرائيل حكومة حماس بالضغط على هذه الفصائل لتسليم الجندي المختطف. وبدوره طالب اسماعيل هنية هذه الفصائل بالمحافظة على سلامة الجندي وتسليمه من اجل تجنيب الفلسطينيين المزيد من الخسائر، الا ان مطالبته ونداءاته راحت ادراج الرياح فلم يسلم هو نفسه من العقاب الاسرائيلي الذي طال مقر اقامته.
ثلاث صور استوقفتني في هذا المشهد، وهي على التوالي: صورة الخاطفين،وصورة الرد الاسرائيلي، واخيراً صورة العرب ومعهم بالطبع رئيس الحكومة الفلسطينية اسماعيل هنية المطالبين باطلاق سراح الجندي المخطوف، وهذه الصورة بالذات استوقفتني كثيرا وجعلتني اتساءل مع نفسي اي ازدواجية يعيشها العرب؟ واي جرب فكري ينخر عقولهم؟ واي طائفية مقيتة تحركهم؟ وتساءلت هل سنشاهد هذه ( الهبة) العربية في مطالبة الخاطفين بالتروي وتحكيم العقل واطلاق الجندي المخطوف لو كان المخطوف من رجال الحرس الوطني او الشرطة العراقية وتختطفه احدى زمر الارهاب التي تصف نفسها بـ(المقاومة)؟. دعونا قبل الاجابة على هذه الاسئلة ان نتعرض لهذا المشهد بصوره الثلاث.
الصورة الاولى: الخاطفون
وفيها تبدو لنا مجموعة من الملثمين الذين ينتسبون الى احدى الجهات الدينية المتشددة الرافضة للاعتراف باسرائيل، والتي (تجاهد) لـ(تحرير) فلسطين من النهر الى البحر، وقد غارت على موقع للجيش الاسرائيلي المتاخم لحدود غزة وبعد (طاق وطيق) تنجلي الغبرة عن عدة قتلى، اكثرهم من الجماعة الغائرة،لتنسحب ومعها غنيمتها الجندي المختطف. ولنسمع عبر وسائل الاعلام بياناً لهذه الجماعة (المجاهدة حتى النخاع) تعلن فيه عن تحقيقها ( نصراً)عظيما ً بإختطاف (جلعاد شاليط) والذي لن يطلق سراحه الا بعد اطلاق سراح سجناء فلسطينيين في السجون الاسرائيلية. اذاً هي العودة الى تكتيك الاختطاف وتفجير الطائرات الذي مارسته القوى الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضى.
وما العيب في هذا التكتيك؟ سؤال يطرح نفسه. اليست هي الحرب وكل الوسائل والسبل والاسلحة مباحة من اجل تحقيق ( النصر)؟ ولماذا لا يكون الاختطاف احد هذه الاسلحة؟ اسئلة تعكس حجج وتبريرات الجماعة الخاطفة ومعها جوقة المطبلين لها في الاعلام العربي من مدمني الشعارات والخطب الطنانة الرنانة.
الجواب عليها نقول ان هذا التكتيك انما لجأت اليه القوى الفلسطينية يوم لم تكن لديها حكومة واراض محررة تحكمها. يومها لم تكن هنالك سلطة فلسطينية، بل كانت هنالك فصائل مقاومة تمارس حقها المشروع في المقاومة. اما الان فهنالك اتفاقيات اوسلو ومدريد وشرم الشيخ والعقبة والقاهرة و... الخ. و تمخضت هذه الاتفاقيات عن سلطة وعن حكومة يفتخر الفلسطينيون،قبل غيرهم، بها وبشرعيتها النابعة من انتخابات ديمقراطية لم تشهدها دول المنطقة، سوى العراق، الذي كان سباقا. غني عن التذكير ان الاتفاقيات المذكورة انهت حقبة المقاومة المسلحة واستبدلتها بالمقاومة السياسية السلمية
اما قضية مساومة الجندي المخطوف لاستبداله بالسجناء الفلسطينيين على غرار مافعله (حزب الله) فهي الاخرى باطلة لعدم التشابه بين الحالة اللبنانية والفلسطينية، حيث لا وجود لاي اتفاقيات بين الاسرائيليين وبين الحزب المذكور، ولانه لاتوجد دولة في العالم تساوم خاطفين، لان القانون الدولي والاعراف الدولية تعتبر الخطف جريمة يعاقب عليها القانون.ومن يعرف اسرائيل جيدا سوف يتيقن انها لن تخضع لمثل هذا الابتزاز ولن تفعلها حتى لا تكون سابقة في التعامل مع جرائم الاختطاف، مما سيشجع جماعات اخرى على اعادة السيناريو، فتكون بذلك قد فتحت- اي اسرائيل- على نفسها بابا لا يعلم احد كيف سيُسد،خصوصا مع وجود جماعات دينية فلسطينية تمتهن (المقاومة) من باب الارتزاق لا غير.
الصورة الثانية: الرد الاسرائيلي
دبابات وطائرات ومدافع ومئات الجنود المدججين بأحدث الاسلحة تتجمع عند حدود غزة تنتظر اشارة البدء، بعد ان رفضت الجماعة الخاطفة الاستجابة لندائي كل من الحكومة الاسرائلية ونظيرتها الفلسطينية لاطلاق سراح (جلعاد شاليط)، فتبدأ المعركة. وكالعادة يطلق (المقاومون) سيقانهم للريح او يتحصنون بالمدنيين العزل ليتركوهم يلاقون العذاب الاليم بصدور عارية،والخسائر عشرات من القتلى والجرحى، وسلطة محرجة لا تدري بأي يد تصول.
ولا داعي للتذكير ان حكومة (حماس) تتحمل مسؤولية هذا التدهور،وذلك بسماحها لجناحها العسكري، وبقية الفصائل المسلحة، بممارسة العنف المسلح. وبالرغم من كونها حكومة، فإنها لاتزال تمارس سلوكيات الجماعات المعارضة لاتفاقيات السلام الموقعة بين السلطة الفلسطينية وبين اسرائيل برعاية دولية !!! والمفروض فيها ان تتحول، مثل السلطة الفلسطينية،من منهج المقاومة المسلحة الى منهج المقاومة السياسية السلمية.اذ لا يمكن لحكومة منتخبة ان تتخلى عن مسؤولياتها والتزاماتها تجاه شعبها، وتجاه الشرعية الدولية، لتقوم بالدور الذي تقوم به الجماعات المسلحة الرافضة لاتفاقيات السلام والمتمردة على القانونين المحلي والدولي.
على اية حال فعلها ( المقاومون) ولاذوا بالفرار كالعادة. وبينما العالم يتحدث عن فضاعة مايجري في غزة من عدوان اسرائيلي، نجد الرفيق صاحب ( القدس العربي) يتحدث بصحيفته الصفراء عن ( دروس لقنها المقاومون لجيش الاحتلال). ولا ينسى صاحب هذه الصحيفة البائسة في محاولة حقيرة للإرتزاق والمتاجرة بدماء الابرياء، الربط بين (جهاد المقاومة) الفلسطينية و(شقيقتها) العراقية ليعزف لنا على وتر الامة العربية الواحدة والمصير المشترك، وليعيد لنا اسطوانة ( يا اهلا بالمعارك... يابخت من يشارك) واناشيد سيد مكاوي ( الارض بتتكلم عربي..الارض، الارض) وهو الجالس في ارقى مناطق عاصمة الضباب حيث تصدر صحيفته المسجلة باسم يهودي بريطاني دون ان يكلف نفسه عناء الالتحاق بصفوف ( المقاومين) في غزة حيث الشعب الاعزل هناك بين مطرقة اسرائيل وسندانة (حماس) المتشددة.
الصورة الثالثة: مطالبة فلسطينية عربية
وفي هذه الصورة يكشف بعض العرب من قومجيين واسلاميين وبعض الفلسطينين، عن عوراتهم،وعن ازدواجية غريبة عجيبة حينما يطالبون الجهات الخاطفة بالرأفة بالجندي الاسرائيلي وبضرورة المحافظة على سلامته الشخصية واطلاق سراحه من دون قيد او شرط وتسليمه معززاً مكرماً، بينما تجدهم يلوذون بصمت القبور تجاه جرائم الخطف التي تمارسها المجاميع الارهابية في العراق بحق الابرياء من عراقيين وغيرهم ان لم يشجعوها على اعمالها القذرة.
شعرت بحجم النفاق الذي يمارسه هؤلاء الدجالون وانا استمع وانظر الى عضو قيادة (حماس) رئيس الحكومة الفلسطينية هنية وهو يوجه رسالة مناشدة للخاطفين لاطلاق (جلعاد شاليط) مذكرا اياهم بالاخلاق العربية، وبالرحمة الاسلامية المطلوبة في مثل هذه الحالات. يقول هذا وزميله ورفيقة في المكتب السياسي لـ(حماس) خالد مشعل يزبد ويعربد في احد مساجد ضرار الدمشقية مطالباً العرب والمسلمين بالجهاد والانخراط في صفوف ( المقاومة) العراقية لتطهير ارض الرافدين من براثن (الاحتلال) الامريكي واذنابه من الحرس الوطني والشرطة العراقية على حد تعبيره. ولا ينسى ان يذكر(المقاومة) العراقية بإن لا تأخذهم بالخونة والمرتدين من عناصر الحرس الوطني والشرطة لومة لائم. وان لا يتهاونوا معهم داعيا اياهم الى احياء (سنة الذبح) وقطع الرؤوس.وماهي الا سويعات حتى تطالعنا احدى الفضائيات العربية المولعة بحفلات الذبح بشريط فيديو يظهر (المقاومة العفيفة جدا) تنفذ (حكم الله) ووصايا الاخ مشعل بحز رأس جندي عراقي.
بالله عليكم هل شاهدتم او سمعتم من قبل بمثل هذه الازدواجية وبمثل هذا الدجل والنفاق. يستنكرون اختطاف جندي من جنود (العدو)الاسرائلي ويطالبون بالمحافظة على حياته، بينما نرى صرخاتهم المسمومة تعلو لأنزال (حكم الله) بجندي عراقي مختطف لاذنب له سوى الدفاع عن وطنه وعن ابناء شعبه العزل امام الارهاب؟ انه العهر السياسي العربي وانها عورة أبن العاص من جديد وصدق شاعرنا النواب حين انشد واصفا هؤلاء المنافقين:
quot;أنبئك عليا ً
ما زالت عورة بن العاص معاصرة
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية
ما زال ابو سفيان بلحيته الصفراء
يؤلب باسم اللات العصبيات القبليةquot;
ونحن نقول مازال مشعل وهنية والقرضاوي وبن لادن وبشور والبكري والباري والضاري وبقية الدايناصورات القومية والاسلاموية يمارسون دور ابي سفيان في تهييج العصبيات الطائفية.
التعليقات