سئل مرة الزعيم البولندي quot;ليش فاليزاquot; عن السبب الأساسي في انهيار النظام الشيوعي فأشار إلى جهاز التلفزيون قائلا quot;هذا هوالسببquot;. فوسائل الإعلام قادرة إذن، بالرغم من أنها مجرد وسيط وليست منتجة أصليّة للأفكار، على المساهمة بفاعلية في خلق واقع جديد.
وتكمن قوة وسائل الإعلام ونجاعتها في كونها وسيطا لوسيط أخطر منها وهو الكلمة والصورة ومجمل العلامات التي أنتجها الإنسان للتواصل والتأثير. فالتلفظ الذي كان ينظر إليه على أنه واسطة وثانوي جدا أصبح سلطة. ويتمثل سلطانه بالنسبة إلى وسائل الإعلام في فن تحويل المعلوم إلى مجهول والسماح بالتفكير بالأشباح بدل الأشياء من خلال عالم لغوي خالص.
وسلطة القول التي تتحول، بفعل هذه الآليّة، إلى تسلط بالقول، لخّصها الجاحظ في حديثه عن القدرة البلاغية في التخلص من الخصم بالحق وبالباطل، موافقا بذلك الفيلسوف الإغريقي أفلاطون الذي حارب السفسطائيّين، إعلاميّي العصر الحديث، لأنهم يسخّرون القول لجعل quot;الأشياء الكبيرة تبدو صغيرة والأشياء الصغيرة تبدو كبيرة quot; وهذا ما فعلته قناة الجزيرة يوم الاثنين 14 أوت ( آب) فقد استفاق اللبنانيون ، وبعد 32 يوما من الدمار والأعصاب المشدودة، على صمت متوتر، ذلك الصمت الذي يعقب المجازر، والذي أيضا يمكن أن يؤدي إليها ثانية، إذا لم يتمكن الإنسان من التسلح بالحكمة أو على الأقل بالصبر. وبدا الإعلام الوطني اللبناني وطنيا جامعا أكثر من أي وقت مضى.
تفادى لعبة صراع الدّيكة بين الخصوم السياسيين، وتوجه نحو المؤسسات الاجتماعية التي تجمع ولا تفرق. أعطاها الكلمة لتوجيه الشعب الجريح حول أفضل الطرق الصحية والوقائية لتفادي مآسي مجانية من نوع دخول بناءات متداعية أو التنقل في أماكن موبوءة بالألغام الإسرائيلية. واجتنب الإعلام اللبناني قدر الإمكان التصريحات التي يمكن أن تدفع باللبنانيين داخل دوامة العنف والثأر.

غير أنّ قناة الجزيرة اختارت مقاربة مختلفة.

ففي برنامج مباشر تم بثه على الساعة السادسة والربع، طلع علينا الصحفي التونسي غسان بن جدّو، مراسل الجزيرة السابق في طهران، محاطا بمجموعة من المواطنين اللبنانيين في الضاحية الجنوبية من بيروت، وهي منطقة كانت تحت سيطرة حزب الله قبل الحرب والتي دمرتها إسرائيل بالكامل. وبدأ صحفي الجزيرة في توجيه المتحدثين نحو وجهة خطيرة. فهو، أولا وكعادته، لم يعطي الكلمة سوى لأنصار حزب الله وميشال عون، الذين طفحوا يشككون في وطنية الحكومة اللبنانية ويطالبون بإزاحتها ويحمّلونها صراحة وضمنيا مسؤولية الخراب الذي لحق بلبنان.
بل أنهم طالبوا بعدم العودة إلى وضع ما قبل 12 جويلية (تموز) أي، حسب قولهم، إلى وضع لا تطالب فيه الأغلبية المنتخبة، بنزع سلاح حزب الله، الذي ظهر وباله على البلد، وبانتشار الجيش الوطني المدعم لسلطة الدولة والممثل لكل اللبنانيين، وباستقلال القرار السياسي اللبناني عن القرارين السوري والإيراني.
ويتواصل التضليل لإيهام اللبنانيين بأن مجلس الأمن سلط على بلدهم عقوبة حضر التسلح، والحال أن القرار يخص حزب الله. وهو تضليل عادي بالنسبة لأناس يرفعون علم حزب الله كرمز للبنان بأكمله.
هكذا تحث قناة الجزيرة، وبقسوة نادرة، على عودة لبنان إلى الوضع العبثي الذي أوصله إلى هذه الحالة التراجيدية. بل إنها، وربما، من حيث لا تدري تحثه على أبشع من ذلك. تحثه على التناحر الطائفي. فحزب الله المحسوب على الشيعة الذين لا يمثلون سوى أربعين في المائة ديمغرافيا، قرّر بمفرده ودون استشارة بقية الشعب والحكومة التي ينتمي إليها والبرلمان الممثل فيه، الدخول في حرب ضدّ إسرائيل، المدعّمة مباشرة من طرف أقوى دولة في العالم، والتي تساندها أوروبا معنويا وتشجعها الدول العربية والإسلامية بصمتها.
فكانت النتيجة العودة إلى أوضاع ما قبل تحرير الجنوب، وإلى عشية خروج المقاومة الفلسطينية صائفة عام 1982، وليلة اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 مجتمعة.
فإذا كانت الحرب الأهلية قد اندلعت بسبب الوجود الفلسطيني في لبنان ومساندته آنذاك من طرف اليسار والعروبيين اللبنانيين من كل الطوائف، فإنها اليوم يمكن أن تندلع بسبب الوجود السوري والإيراني المختفيين تحت جلباب حزب الله الذي لا يمثل سوى الإسلاميين الشيعة.
وإذا كانت حرب 1982 وحصار بيروت الغربية من طرف إسرائيل قد اندلعت بسبب وجود منظمة التحرير الفلسطينية كدولة داخل الدولة، فإن حرب تموز 2006 حصلت لنفس الأسباب مع إضافة مهمة تتمثل في أن دويلة حزب الله التي تتصرف باستقلال تام عن الدولة اللبنانية، تضم شقا من المواطنين اللبنانيين. أي أنه إذا كان اللبنانييون قد تمكنوا من تجاوز مخلفات دمار حرب 1982 بمجرد خروج الفلسطينيين، فإنهم اليوم سيجدون أنفسهم وجها لوجه مع طائفة وطنية محسوب عليه دمار هذه الصائفة المروعة الفظيعة.
وإذا كانت المقاومة ينظر إليه بعين الرضي بعد تحرير الجنوب سنة 2000، فإنها قد نجحت في تبديد رصيدها هذا بإعادة الجنوب تحت السيطرة الإسرائيلية بطريقة غير مباشرة.
أليس من المضحك المبكي المطالبة اليوم بكل سفاقة بالانقلاب على حكومة quot;فؤاد السنيورةquot; المنتخبة، لا لذنب ارتكبته، سوى تمثيلها قولا وفعلا لأغلبية اللبنانيين وسوى تنبؤها بالعواقب الوخيمة لتشبث حزب الله بالراعيين السوري والإيراني؟
ويعني هذا الكلام أن اللبنانيين، إذا كانوا قد تمكنوا من تجاوز مآخذهم على حزب الله بعد مجزرة quot;قاناquot; وهم يجتهدون لضبط النفس وعدم الدخول في مهاترات ومحاسبات يمكن أن توصلهم إلى وضع quot;الكنتوناتquot; الذي خبروا قسوته في السبعينات، فإنه يصعب عليهم قبول العودة إلى العيش في وضع أدى بالبلد إلى دمار غير مسبوق في ظرف بضعة أسابيع.
أليس من الخطير أن تفتح وسيلة إعلامية منبر حصريا، للذين يتمتعون بمنابر في دولتين خارج بلدهم إضافة إلى منابرهم المتعددة داخلها، لا ليعبروا عن رأي بل ليقولوا كلاما يعتبر قانونا من قبيل الحثّ على التناحر الطائفي في هذا الظرف بالذات؟
وفي الحقيقة فإن قناة الجزيرة قد عودتنا ، وهي ترفع شعار الرأي والرأي الآخر، على تقديم حقيقة وحيدة ممكنة للأحداث الدموية التي يعيشها العالم العربي. وتقوم هذه الحقيقة على مجموعة من الأفكار تخدم أجندة طرف سياسي معين، يتم ترسيخها في ذهن المتلقي بأساليب متعددة، تتلخص في التهويل والترهيب والإلحاح والتضليل والتكفير.
ولا تكتفي الجزيرة بهذا الخطاب لخلق إجماع، بل تسانده بإفراغ فضاءات الرأي، التي تفتحها، من التنوع والاختلاف. فقد لعبت خلال الحرب على لبنان على وتيرة الإجماع، بتجاهل الأصوات المعارضة ونجحت في إفراغ ذهن المتلقي من بذور الشك.
وقد تم بهذه الطريقة قولبة فكر المتلقي بطريقة تسمح بالتصريح بأي شيء دون الخوف من السخرية. وسدت كل المنافذ أمام المتفرج ليرى حقيقة واحدة مطمئنة متمثلة في وجود شخص واحد يعرف الحقيقة الحقيقية، وهوquot;حسن نصر اللهquot; البطل، حامي الوطن ومحرر الشعب اللبناني (من ماذا ومن من؟ ).
إنها تقنية فعالة تسمح بخلق إجماع مزيف حول حقيقة اخترعها السياسيون يتم على أساسها قولبة فكر المتلقي في الاتجاه المحدد سلفا. وهي عملية مغشوشة في جانب كبير منها، ومع ذلك يظل سلطانها جبارا وحتى قاتلا. وقد عودتنا الجزيرة على نسج إجماع مغشوش وأساطير لأبطالها اللذين تخصصوا في ذبح شعوبهم.
فقد بثت أكثر من مرة خطب quot;أسامة بن لادنquot; التي تعترف بquot;الضربات المباركة ضد الكفر العالميquot; وتزخر بالدعوات إلى quot;الحرب على الصليبيينquot; وquot;الإرهاب المحمودquot; والتي تدين quot;الغرب عامةquot; لأنه quot;يحمل من الحقد الصليبي على الإسلام ما لا يوصفquot; (من حديث لأسامة بن لادن بثته قناة الجزيرة بتاريخ 27-12-2001)
كما دأبت على النفخ في صورة quot;صدام حسينquot; التي صنعت له أسطورة على عجل. ولم تتوانى عن التأكيد باعتزاز على امتلاك العراق أسلحة دمار دون التفطن إلى الانعكاسات الخطيرة لهذه التهمة. فدعمت بذلك الدعاية الأمريكية الهادفة إلى كسب إجماع عالمي بالعدوى والتهويل وتضخيم قوة العدو لتضخيم الإحساس بالرعب والدفع إلى القضاء عليه قبل أن يقضي عليهم.
كما عملت قناة الجزيرة خلال الحرب على العراق على تكوين مشهد يظهر أن الإسلام كدين هو الهدف الوحيد لمخططات الحكومة الأمريكية.
وقد سقطت بذلك في فخ الدعاية الأمريكية التي تعمل على ترويج فكرة صراع الحضارات كسبب للعنف بين الشعوب وكمحرك للتاريخ، للتغطية على السبب الحقيقي وهي مصالحها البترولية في المنطقة.
إن المثير في هذه الظاهرة هو أن الأدبيات الإعلامية لقناة الجزيرة تكاد تتطابق مع أدبيات الفاعلين المهيمنين على الساحة السياسية شرقا وغربا.
ورغم ذلك، يعتقد عدد كبير من المتلقين العرب إلى اليوم بأن قناة الجزيرة هي الوحيدة المعبرة عن الحقيقة. ولنا أن نتساءل :حقيقة ماذا؟ وحقيقة من؟
فلنتذكر كيف همشت قناة الجزيرة الوقائع على الأرض، خلال الحرب على العراق، وكيف ركزت وجهتها على نقل مؤتمرات وزير الإعلام العراقي quot;محمد سعيد الصحافquot; المعتمدة فقط على دعاية النظام العراقي التي تعج بشتم quot;العلوجquot; وتعاملت مع تضليله كمسلمات.
وعندما كانت المدرعات الأمريكية تتوغل في قلب بغداد، كانت قناة الجزيرة تنقل صور مدرعات أمريكية تحترق، موهمة المتلقي باندحار العدو أمام القوة العراقية التي لا تقهر. وهكذا أعادت قناة الجزيرة اللعبة الممجوجة لإذاعة quot;صوت العربquot; المبشرة بالنصر على إسرائيل خلال حرب 1967، التي نسميها اليوم هزيمة، والتي أنتجت آثارا مدمرة على نفسية العرب.
هل تكمن الحقيقة إذن في تصوير بعض العربات المحترقة وأقوال quot;الصحافquot; فقط؟ إنه جزء من الحقيقة البديهية.
ولكن من يعرف اليوم حقيقة المفاوضات السرية المريبة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأطراف عربية وإسلامية للتمكن من القبض على صدام حسين ووصول الشيعة إلى الحكم وما ينتج عنه من عنف ودمار يمكن أن يؤدي بالعراق إلى حرب أهلية؟
أما في قضية اغتيال quot;رفيق الحريريquot; ومخلفاتها على النظام السوري فقد تجنّدت قناة الجزيرة للدفاع عن النظام السوري التي تقدمه كضحية مؤامرة أمريكية هدفها معاقبة هذا النظام الصّامد، كما تصفه، تجاه السياسة الإسرائيلية.
وهذا جزء من الحقيقة أما الجزء الباقي المسكوت عنه فهو عدم إطلاق النظام السوري خرطوشة واحدة لتحرير الجولان ومساندته لأمريكا في حربها الأولى على العراق مقابل السماح لها بالبقاء في لبنان واستغلاله ما يسمى بالمقاومة الإسلامية quot;حزب اللهquot; خدمة لمصالحه.
ومن يعرف كذلك معاناة الشعب السوري واللبناني والفلسطيني من فرض للأوامر الأمريكية والقمع والفساد المسلط عليهم طيلة ثلاثين عاما من طرف النظام السوري تحت ذريعة تحرير الأرض المغتصبة بحجة quot; لا صوت يعلو فوق صوت المعركةquot;؟
من يعرف أنّ النظام السوري قدم لإسرائيل خدمات لم يقدمها بعض قادة إسرائيل أنفسهم. هذا النظام قتل ما يزيد عن 100 ألف سوري بدعوى أنهم أخوان مسلمين وقتل من الفلسطينيين في تل الزعتر وطرابلس وصبرا وشاتيلا أكثر مما قتلت إسرائيل منذ نشأتها، ناهيك عن شق الصف الفلسطيني وبعثرة الصف العربي عبر مساندة إيران ضد العرب.
كم من عربي يعرف اليوم حقيقة تلك الممارسات الاستبدادية التي كانت تغطيها وتسكت عنها دعاية حلفاء الأمس من فرنسيين وأمريكان والتي أزهقت بسببها آلاف الأرواح والتي تم سحبها اليوم بعد انتهاء دور النظام السوري في المنطقة؟
وتواصل اليوم الجزيرة تجويقها حول الزعماء العرب الصامدين، بحجة معارضة الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، عوض الكشف عن ممارسات العدوين الداخلي والخارجي.
وينتج مثل هذا الخطاب الإعلامي المتخصص في صنع بطولات وهمية للأنظمة الاستبدادية مزيدا من الخداع والتجهيل للشعوب العربية المغبونة. وهوما تسعى إليه الدعاية الأمريكية لإظهار العرب ككل في صورة جنس متخلف ودموي يدافع عن جلاديه ويكمم الأصوات الحرة.
وفي الحقيقة فهي لا تجانب الصواب كثيرا. فذهن الشعوب العربية مقولب في جزء هام منه على هذا الأساس بفعل دعاية الأنظمة العربية المحتكرة أيضا quot;للحقيقةquot; المتمثلة في quot;تفانيها من أجل شعوبهاquot; وتعرضها quot;لافتراءات عملاء الغربquot; المعارضين لسياستها quot;الحكيمةquot; والمبررة لغلق فضائها الإعلامي خوفا من تسرب جرثومة الخيانة داخل الوطن. وهي تسمح في الحقيقة بذلك بتسريب جرثومة الجهل.
لم يتعود العرب إذن، بفعل هذه الممارسات، على وجود خطاب بديل مما حال دون تدربهم على معنى الشك والتساؤل وتنسيب الأحكام. فقد تداولت عليه الأنظمة المستبدة والحركات المتشددة، اليسارية والإسلامية، الحاملة لأفكار مطلقة ولوعي مزيف. وزاد الإعلام العربي الجديد الطين بلة عندما فتح أبوابه أمام مجتمع حامل لمرض احتكار الحقيقة وعمل جاهدا على ترويجها في البلدان التي نجت منها بطريقة أو بأخرى. وهكذا تحالفت على هذه الشعب دعاية وسائل إعلامه ودعاية أنظمته الاستبدادية ودعاية السياسة الأمريكية التي تصب جميعها في نفس الخانة الفكرية المطلقة والمفرملة للمعرفة.
ونحن هنا لم نعد تجاه ظاهرة إعلامية وإنما تجاه إعلام ممسوخ اسمه الحقيقي هو الدعاية.
وما بين الإعلام والدعاية يوجد تعارض مطلق. فالإعلام وظيفته الإخبار والمساعدة على تكوين الرأي. أما الدعاية فوظيفتها التأثير على العقول بهدف السيطرة على سلوك الأفراد وإخضاعهم إلى أغراضها الخاصة.
والدعاية هي حكم القيمة التي تصنع الإضافة تفضيلا أو تبخيسا. وعندما تدخل المعيارية من الباب يخرج الإعلام من الشباك.
فالدعاية هي التي صنعت حضارة القيمة التي نعيشها اليوم والتي يتم بموجبها توزيع صكوك الطهارة والخير أو النجاسة والشر على الشعوب، من خلال وسائط الإعلام تحديدا، التي تروج بوعي أو بدونه وعلى مدار الساعة خطابا ثقافيا معياريا لدعاة الصدام شرقا وغربا.
والدعاية تخلق تفكير أهل الكهف الأفلاطوني الذي لم يكن لهم بد من الاعتقاد بأن الأشياء المتراقصة على جدران الكهف هي الأشياء الحقيقية.

أستاذة جامعية من تونس
[email protected]

http://geocities.com/salouacharfi/index.html